dark

مشاهد وعبر من تاريخ المغرب المعاصر (1955-1999)

5
(1)

قبل تولي الملك محمد السادس الموقر مقاليد الحكم في المغرب سنة 1999، عرفت الدولة المغربية المستقلة تاريخا غزيرا بالأحداث الكبرى، تلك الأحداث التي يوجد منها ما أثر سلبيا على مسيرة التنمية والبناء في بلادنا، ومنها ما أثر عليها إيجابيا، بل ومنها كذلك ما غيّر مجرى التوقعات التي كانت سائدة قبل وقوعها، ما جعلها تلج إلى مدونة تاريخ المغرب المعاصر من بابها الواسع.

في هذا المقال، سوف أحاول أن أعرض عليكم قرائي الأعزاء بعضا من أهم تلك الأحداث الماضية، مقسّما إياها إلى قسمين متناقضين أو نقيضين لبعضهما البعض، انطلاقا من زاوية نظري المتواضعة؛ ألا وهي الأحداث التاريخية السلبية أو السوداوية في القسم الأول، والأحداث التاريخية الإيجابية أو الجليلة في القسم الأخير. والجدير بالذكر أنني سوف أتناولها بطريقة كرونولوجية مجزّأة في شكل سنوات، تحمل كل منها ذكريات خاصة، متعمّدا البدء بما هو سوداوي لكي أختتم مقالي بالبياض والأمل الذي نتشوق إليه لبناء غد أفضل، وأكثر بياضا إن شاء العلي القدير، وإن توفرت عندنا الإرادة لتحقيق ذلك نحن جميعا بطبيعة الحال.

القسم الأول: الأحداث التاريخية السوداوية

ما بين سنتي 1956 و1959: خلال تلك الفترة كانت ذهنية جل المغاربة محمومة بمشاعر الوطنية والدفاع عن حوزة الوطن ووحدته، ليس في أراضيه فقط، وإنما على وجه الخصوص في تشكيل هويته الفكرية ومختلف الآفاق المرتبطة بحياة المغاربة الجماعية والفردية بعد ترسيم الاستقلال الإداري والسياسي عن فرنسا وإسبانيا، غير أن وقوع بعض الأحداث الخطيرة في تلك المرحلة سوف يثير الريبة والرهبة في نفوس المغاربة، رغم بعض المحاولات الإصلاحية التي كان الملك محمد الخامس _رحمه الله_ يقودها في تلك المرحلة (حكومتا بلافريج وعبد الله إبراهيم). أستحضر هنا مثلا بداية الانشطار والصراع المسلح داخل جيش التحرير حديث التأسيس آنذاك، ثم رفض بعض الأجنحة في جيش التحرير الانضمام إلى الجيش الملكي بعد تأسيسه سنة 1956، كمنظمة “الهلال الأسود” مثلا دون الحصر، وهو الأمر الذي تسبب في حالة من الفوضى والاغتيالات في هذه الطرف أو ذلك، بينما كان أذناب الاستعمار حاضرون في الساحة بقوة… ففي تلك الفترة بالذات اغتيل الكثير من الوطنيين والرجال والنساء الأكفاء، فخسرت البلاد بعضا من خيرة أطرها وكوادرها، نذكر منهم مثلا دون الحصر كل من ثريا الشاوي وعبد السلام الطود وإبراهيم الوزاني وعباس المساعدي سنة 1956، وعبد العزيز بن إدريس سنة 1959، وغيرهم كثير رحمهم الله جميعا.

ولا ننسى بطبيعة الحال ما حصل في تلك الفترة من أحداث عنف في الريف، إثر انتفاضة سكانها وتقديمهم عريضة مطالب سياسية واجتماعية قوبلت بالرفض والعقاب والجماعي من طرف قوات الأمن والجيش. إذن، هي مرحلة سوداء من تاريخ المغرب مازالت في حاجة إلى تنقيب وتصفية ومراجعة من شأنها أن تذيب كل لبس أو تشنّج موروث عند المغاربة في الريف وفي غير الريف من مناطق المغرب الحبيب…

سنة 1961: عرفت هذه السنة وفاة الملك المحبوب عند المغاربة المغفور له محمد الخامس، إثر إجرائه عملية جراحية بسيطة، فسقط ذلك الحدث على المغاربة كالصاعقة، إذ خيّم عليهم حزن كبير وترك في خوالجهم غصّة وجروحا لم تندمل بسهولة، كما روى لنا آباؤنا وأجدادنا الذين عايشوا تلك المرحلة. وإن كانت للمغاربة في تلك الفترة علاقة عشق ومحبة متينة مع الملك محمد الخامس فإن الجيل الذي جاء في ما بعد قد ربطته علاقة جديدة مع ابنه الملك الحسن الثاني، رحمه الله، وإن كانت لم تخل أحيانا من أحاسيس الرهبة والخوف ومن المعارضة لبعض قراراته الفردية أحيانا أخرى.

سنة 1963: بعد انقسام الحركة الوطنية سنة 1959 وانسياقها في صراعات ثنائية لا تنتهي، أنهكتها ونفعت خصومها أكثر مما نفعتها، سوف ينهج حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سياسة ثورية (الخيار الثوري) تتبنى الاشتراكية مبدأ لها، إذ وجه قادة الحزب الثوريون آنذاك (الفقيه البصري واليوسفي..) جل مجهوداتهم للإطاحة بالنظام المغربي الذي سوف يرد لهم الصاع صاعين بما تعرف بمحاكمات سنة 1963، التي حكم فيها على الآلاف من المناضلين الاتحاديين واليساريين، ليتم وضعهم في السجون. ولعلّ تلك الفترة كانت حاسمة في تاريخ النظام المغربي، الذي استقرّ في موقفه بالاصطفاف إلى جانب المعسكر الرأسمالي تحت رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التوجه بطبيعة الحال لم يكن ليعجب الجانب السوفياتي، الذي كان يقدم نفسه ممثلا للحركات التحررية في العالم، ما أسفر عن وقوع أول حرب بين الجارتين (المغرب والجزائر)، تلك الحرب التي تسببت في أضرار بشرية ومادية لم نكن في حاجة إليها، بل إنها أسفرت كذلك عن وقوع هوة كبيرة وشرخ سياسي ودبلوماسي عميق بين البلدين والنظامين مازلنا نعيش تداعياته إلى حد اليوم.

سنة 1965: اختطاف واغتيال الزعيم المهدي بنبركة في ظروف غامضة لم تكشف كل تفاصيلها إلى حد الساعة.

سنة 1972: خلال هذه السنة قام الملك الحسن الثاني _مضطرا ربما_ باتخاذ قرارين غاية في الخطورة، ألا وهما: دعم استقلال شنقيط أو موريتانيا، جنوب الصحراء المغربية، ثم الاتفاق مع الجارة الجزائر على مستوى القيادات بعد حرب الرمال على ترسيم الحدود بين البلدين، مع التفريط في أقاليم كانت معروفة بمغربيتها قبل استقلال الجزائر سنة 1962؛ ويتعلق الأمر بكل من بشار وتندوف وتيفاريتي وبير لحلو… هذان القراران أثارا حنق عامة الشعب المغربي، بل إنهما أثارا غضب القيادات السياسية الوطنية كذلك، وعلى رأسها المرحوم علال الفاسي الذي عارضهما بشدة، وظلت نفسيته مغبونة بسببهما إلى أن وافته المنية بعد سنتين من ذلك التاريخ. والمعلوم أن الجنرال أوفقير كان قد طلب من الحسن الثاني إعدام المرحوم علال الفاسي في الميدان بسبب تصريحاته المعارضة للتفريط في موريتانيا والصحراء الشرقية آنذاك، إلا أن الحسن الثاني رفض مطلبه بشكل قاطع.
سنة 1974: وفاة المرحوم الزعيم علال الفاسي بشكل غير متوقع أثناء تواجده في رومانيا ولقائه برئيسها السابق تشاوسيسكو، من أجل الدفاع عن وحدة المغرب الترابية. والغريب في الأمر أن العلاقة بين السلطة الحاكمة، ممثلة في الملك الراحل، والقيادات التي كانت ممسكة بزمام الأمور في الاتحاد الوطني، كانت جيدة خلال تلك الفترة، فلماذا لم يتم إيفاد مبعوث يساري كعبد الرحيم بوعبيد مثلا دون الحصر بحكم التقارب الإيديولوجي بينه وبين النظام الروماني الاشتراكي بدلا من إرسال زعيم حزب الاستقلال الوسطي أو الذي يقال عنه إنه كان “محافظا”؟.

سنوات1981 و1984 و1990 و1991: قد نصفها بآخر سنوات الرصاص في بلادنا، إذ تميّزت بوقوع انتفاضات شعبية على مستوى عدة مدن مغربية، كالدارالبيضاء ومراكش وفاس وتطوان والناظور والحسيمة والقصر الكبير وغيرها، فكان رد قوات الأمن قاسيا في حق المحتجّين في الشارع، من طلبة وتلاميذ وأساتذة وعمال وأطر ومستخدمين؛ كما تمت محاكمة العديد من المسؤولين النقابيين والحزبيين محاكمات قاسية، بينما كان المغرب في تلك الفترة (العشرية الثمانينية) يعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية جد صعبة وحساسة، اضطرت معها الدولة إلى الدخول في برنامج التقويم الهيكلي تحت إشراف البنك الدولي أو تحت مراقبته بالأحرى…

القسم الثاني: الأحداث التاريخية البيضاء والجليلة:

سنتا 1955 و1956: انتهت فترة الحماية عمليا في 6 نونبر 1955 عندما تم التوقيع على اتفاق “لا سيل سان كلو” بين وزير الخارجية الفرنسي “كريستيان بينو” و”امبارك البكاي”، أول وزير أول مغربي بعد الاستقلال، وهو الاتفاق الذي سيمهّد الطريق لعودة الملك محمد الخامس من المنفى مظّفرا بعد الاعتراف به “حاكما للدولة المستقلة التي تجمعها بفرنسا روابط تكافل دائمة…”، كما جاء في نصّ الاتفاق، فعاد الملك بالفعل إلى وطنه صحبة عائلته الصغيرة، فاستقبله الشعب المغربي استقبال الملوك العظماء في مشهد تاريخي لا ينسى، يجسّد روابط التلاحم والاتحاد والمحبة بينهما. وقد ترسّم الاستقلال المغربي في ما بعد بشهور قليلة بعد التوقيع على الإعلان المشترك (المغربي-الفرنسي) الذي ينهي الوصاية الفرنسية والإسبانية كذلك بشكل تلقائي على المغرب بشكل نهائي في الثاني من مارس 1956. هكذا إذن انطلقت مسيرة بناء الدولة المغربية المستقلة في جو محموم بالمشاعر الوطنية الجياشة، والأمل في بناء دولة ديمقراطية حديثة بمؤسسات دستورية كاملة الأسس والأركان.

سنتا 1957 و1958: خلال هاتين السنتين الذهبيتين لفجر الاستقلال تمت صياغة وإصدار أولى وأهم القوانين والظهائر المؤطّرة لحياة المغاربة الجماعية والفردية، نذكر منها مثلا: الظهير المتعلق بقانون النقابات المهنية في غشت 1957، وهو القانون الذي شكل قفزة نوعية في مجال التشريع والحريات، ثم مدونة الأحوال الشخصية بتاريخ 22 نونبر 1957، التي سهر على صياغتها المرحوم علال الفاسي، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك، فكانت بمثابة ثورة اجتماعية في ذلك الوقت، خصوصا أنها نصّت صراحة على تقييد التعدد في الزواج حتى كادت تمنعه بتاتا؛ ناهيك عن مجموعة من المقتضيات الأخرى التي ساهمت في تقدم الأسرة المغربية واستقرارها، قبل أن يتم تتويج تلك الترسانة القانونية بإصدار ظهير الحريات العامة المتعلق بتأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية بتاريخ 27 نونبر 1958، أي في عهد حكومة أحمد بلافريج، زعيم حزب الاستقلال.

سنة 1962: قبل وفاة الملك الراحل محمد الخامس رحمة الله سنة 1961 كان قد قام بعدة خطوات لتحقيق عزمه القوي على إخراج البلاد من حالة اللادستور أو اللا قانون، فقد سبق له أن أصدر في الثامن من ماي 1958 وثيقة دستورية سميت “العهد الملكي”، حدد فيها الملك الراحل طبيعة نظام الحكم الذي يرأسه، بالتنصيص صراحة على أنه نظام ملكي دستوري يعترف بالتعددية السياسية، ويمكّن الشعب من تسيير شؤون البلاد بواسطة مجالس منتخبة محليا ووطنيا؛ قبل أن يبادر بتعيين مجلس دستوري يضم كل ألوان الطيف السياسي المغربي آنذاك، تحت رئاسة الزعيم علال الفاسي، غير أن كلا من حزب الاتحاد الوطني، المنشق عن حزب الاستقلال، والحزب الشيوعي المغربي، انسحبا من ذلك المجلس بدعوى أنه معيّن وغير منتخب، لتبوء تلك المحاولة الأولى بالفشل، وتبقى البلاد في حالة فراغ دستوري لم تنته إلا بوضع الملك اللاحق الحسن الثاني مشروع دستور بإرادته الفردية، وعرضه على الاستفتاء الشعبي الذي صوت عليه أواخر سنة 1962 بنسبة 84 في المائة. ولئن كان اليساريون على حق _من الناحية النظرية_ في المطالبة بانتخاب مجلس الدستور بدلا من تعيينه، فإن الطبقة السياسية التي كانت راغبة في الإصلاح كلها خسرت الرهان لصالح الملك الجديد، الذي تفرّد في وضعه، وأبان عن قوة الملكية في المغرب منذ تلك اللحظة وقدرتها على إنجاز ما لم تستطع الأحزاب السياسية إنجازه، بسبب انغماسها وغرقها في بحر صراعات دنكشوطية لا تنتهي.

سنتا 1971 و1972: تصوّروا معي كيف كانت البلاد ستسير تحت حكم العسكر لو نجح أحد الانقلابين اللذين وقعا في المغرب خلال هاتين السنتين (انقلاب الصخيرات سنة 1971 وانقلاب الطائرة سنة 1972)، فلولا الألطاف الربانية لكان الملك في المحاولة الأولى أو الثانية في عداد الموتى، ولأصبح الجنرال أوفقير _الذي وقف وراء المحاولتين، حسب ما يروى ولم يفضح إلا في الثانية_ هو حاكم البلاد، لكن: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، فقد كانت الصدمة التي وقعت للملك الراحل الحسن الثاني كافية لتوقظه من غرور الحكم المنفرد والثقة العمياء في أعوان البلاط ومسخّريه آنذاك، لذلك سوف يغيّر من سياساته نسبيا ويدشّن صفحة جديدة مع الأحزاب السياسة ورؤسائها (عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وعلي يعتة…)، عنوانها الأبرز هو الحوار والانفتاح على مقترحاتهم، والقصة طويلة صعودا وهبوطا بطبيعة الحال.

سنة 1975: إنها سنة الملحمة الكبرى التي منحت الحسن الثاني شرعية سياسية وشعبية كبيرة لا تضاهى، ألا وهي ملحمة المسيرة الخضراء السلمية التي شارك فيها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من المغاربة، متنقلين من طرفاية إلى عمق الصحراء المغربية المفرغة من الجنود الإسبان، بعدما دعاهم الملك الراحل إلى المشاركة فيها من أجل تحرير الأرض واستكمال وحدة المغرب الترابية. وتبقى الصور التي نقلتها القنوات العالمية لتلك المسيرة الخالدة الأصدق تعبيرا عن تلك الهبّة الشعبية المباركة، وذلك الزخم الجماهيري الذي عبّر عنه المغاربة تحت قيادة ملكهم الذي أظهر حكمته ودهاءه السياسي في التعامل مع قضية الصحراء، في وقت كانت إسبانيا تعيش مرحلة انتقالية موازاة مع مرض حاكمها الأقوى “الجنرال يسيمو فرانكو”، الذي كان يشارف على الموت بينما كان النظام العسكري للجارة الشرقية يترصّد كل هفوة ممكنة للارتماء على أراضينا.

سنة 1976: خلال هذه السنة حصل المنتخب المغربي لكرة القدم على أول وآخر كأس إفريقيا في مسيرته إلى حد الساعة، وهي الكأس التي يعود فيها الفضل إلى كفاءة اللاعبين المغاربة واستماتتهم من أجل إعلاء راية الوطن وإفراح الجماهير. والحديث هنا عن لاعبين مازالت أسماؤهم مرصّعة في كتاب التاريخ، من أمثال الهزاز وفرس وعسيلة ومدرب محنّك يسمى “جورج مادريسكو”.

من 1992 إلى 1998: سبق أن ذكّرنا في هذا المقال بما كان يعيشه المغرب والمغاربة من أزمة اقتصادية خانقة وظروف اجتماعية بالغة الصعوبة خلال العشرية الثمانينية من القرن الماضي، بسبب تراكم المديونية الخارجية وارتفاع مستوى العجز التجاري وانخفاض المستوى المعيشي واضمحلال الخدمات الاجتماعية الأساسية…هكذا، وفي ظل تلك الظروف، سوف تعرف البلاد منذ مطلع التسعينيات حركية سياسية لافتة للأنظار والأخبار تتجلى:
أولا: من ناحية الأحزاب السياسية، في تكتل جديد ومتجدد لأحزاب المعارضة المتمثلة في حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي في ما سميّ “الكتلة الديمقراطية”، في تجربة فريدة من نوعها من حيث الأداء السياسي النوعي والمعارضة الاقتراحية البناءة لأحزاب الكتلة، سواء على مستوى خطابها العام (الإعلامي والتنظيمي) أو على مستوى عملها البرلماني المنسّق انطلاقا من وضع ملتمس الرقابة في البرلمان سنة 1990 إلى غاية رفعها مذكرة من أجل المطالبة بمجموعة من الإصلاحات إلى الملك الحسن الثاني بتاريخ 19 يونيو 1992، دعت من خلالها الملك صراحة إلى القيام بـ”إصلاحات سياسية ودستورية لإرساء القواعد الصلبة والأسس المتينة للنظام الديمقراطي المنشود”، كما جاء في نصّها، ثم رفعها مذكرة أخرى مشابهة لها بتاريخ 23 أبريل 1996؛ وهو ما سيتوج باتفاق جل أحزاب الكتلة مع الملك على الدخول في تجربة حكومة التناوب “التوافقي” سنة 1998.

ثانيا، من ناحية المؤسسة الملكية، في انفتاحها الاضطراري على أحزاب المعارضة ودعوتها إلى المشاركة في الحكم دون التنازل عن أهم اختصاصات الملك الدستورية، اللهم بعض الاختصاصات المحدودة التي نصّ عليها آخر دستور تم إصداره بعد استفتاء شعبي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ألا وهو دستور سنة 1996. وفي خضم هذا السياق، كانت هناك اتصالات شبه متواصلة بين الملك الراحل مع قيادات الكتلة الديمقراطية منذ بداية التسعينيات، ممثلة في المرحوم الحكيم الصامت “امحمدبوستة”، أمين عام حزب الاستقلال، وعبد الرحيم بوعبيد، قبل وفاته سنة 1992، ثم محمد اليازغي في ما بعده، ممثلا عن حزب الاتحاد الاشتراكي؛ بينما كان عبد الرحمان اليوسفي في منفاه الاختياري بفرنسا، وعلي يعتة عن حزب التقدم والاشتراكية وبنسعيد آيت يدر عن منظمة العمل.

هذا وبادر الملك الحسن الثاني سنة 1992 ثم سنة 1993 _حسب شهادات الحاضرين في تلك اللقاءات بين الطرفين_ إلى اقتراح تعيين المرحوم امحمدبوستة وزيرا أول في حكومة ائتلافية تجمع أحزاب الكتلة مع بعض وزراء السيادة، غير أن الزعيم الاستقلالي، بعد استشارته مع باقي الأحزاب، اشترط على الملك إزاحة الوزير القوي ادريس البصري وكل وزارات السيادة من الحكومة المقترحة؛ ناهيك عن تشكيكه في سلامة كل تلك المقاربة التفاوضية الجارية مادامت الانتخابات التي تتشكل على ضوئها الحكومة لم تكن قد جرت بعد، ليتأجل تشكيل حكومة التناوب إلى غاية سنة 1998 تحت رئاسة المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، العائد من فرنسا بدون شرط أو قيد؛ تلك الحكومة التي حققت بعض الإنجازات المهمة، نذكر من ضمنها خصوصا تحسين صورة المغرب في المنتظم الدولي وانفتاحه على دول جديدة تحكمها أحزاب من مجموعة الأممية الاشتراكية…

سنة 1999: لن ينسى المغاربة الذين عايشوا لحظة وفاة الملك الراحل الحسن الثاني بعد معاناة مع المرض مشهد جنازته المهيبة التي مرت وفق الطقوس الإسلامية التقليدية، بحضور غفير جمع أفراد الشعب المغربي مع زعماء ورؤساء كبار من كل أنحاء العالم، في مسيرة تاريخية لمسافة 3 كيلومترات تقريبا. نذكر من بين أولئك الرؤساء والشخصيات مثلا دون الحصر كلا من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والفرنسي جاك شيراك والعاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين والرئيس المصري حسنى مبارك، وملك إسبانيا خوان كارلوس، وأمير دولة البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والتونسي زين العابدين بن علي، والموريتاني معاوية ولد سيدي احمد الطايع، وأمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان … إلخ.

وإذا كانت لحكومة التناوب التي ترأسها اليوسفي بعض الإنجازات المهمة التي حققتها فلعلّ أعظم إنجاز حققته هو تلميع صورة المغرب في تلك اللحظة، وبعث الأمل عند المغاربة في التغيير والتقدم، وهو الأمر الذي مهد لانتقال أسمى سلطة في البلاد من المغفور له الحسن الثاني رحمه الله إلى الملك الواعد محمد السادس، أعانه الله، بسلاسة وأريحية وتلقائية، جاءت لتؤكد استقرار المغرب وحصانة مؤسساته الدستورية.

خاتمة:

إذا عدنا إلى الوراء وتأملنا في ما جرى في بلادنا من أحداث ومحطات تاريخية مهمة منذ الاستقلال إلى غاية جلوس الملك محمد السادس الموقر على عرش أسلافه، سوف تظهر لنا مجموعة من الاستنتاجات التي يمكن اتخاذها دروسا وعبرا قد تفيدنا في الحاضر والمستقبل، إفادة تقينا من إهدار الزمن السياسي أولا وتنير طريقنا إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنشودة، والاستقلال الذاتي عن التبعية والاستلاب. وقد تبيّن بالملموس مما جرى في تاريخنا المعاصر للمرحلة الممتدة من سنة 1955 إلى سنة 1999 أنه كلما اجتمعت القوى السياسية الوطنية الديمقراطية ونسقت وابتعدت عن الصراعات السياسوية، وكلما وقع الاتصال في ما بينها باعتبارها مؤسسات للوساطة وبين أعلى سلطة في البلاد ممثلة المؤسسة الملكية إلا واقتربنا من تلك الغاية النبيلة المنشودة، شريطة أن تكون هناك إرادة حقيقية للنهضة والتغيير عند كل تلك الأطراف التي تحدثنا عنها.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 5 / 5. عدد الأصوات: 1

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

تراجع عدد السكان في 16 ولاية تركية

Next Post

إكرام المحاقري: اليمن: 14 اكتوبر.. احداث تاريخية يتجدد ذكر مجدها

Related Posts