dark

مسيلمة الكذاب مدَّعي النبوة

5
(1)

مسيلمة الكذاب مدَّعي النبوة

مسيلمة الكذاب هو مقال للدكتور سهيل طقوش يناقش فيه تنبؤ مسيلمة الكذاب وعوامل ذلك وأبرز ملامح تنبئه وتصدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم له وأبي بكر رضي

لم يكن الأسود العنسي الوحيد الذي ادَّعى النبوَّة؛ فقد تكرَّر مثل هذا الادِّعاء في اليمامة بين اليمن ونَجْد قرب البحرين في قبائل بني حنيفة على يد مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب[1]، ذلك في السنة العاشرة للهجرة، وقد عُدَّ من أشهر المتنبِّئين وأخطرهم، وكانت اليمامة تُشبه المدينة في تركيبتها إلى حدٍّ بعيد.

نشأة مسيلمة الكذاب وصفاته
كان مسيلمة قبل ادِّعائه النبوَّة يتجوَّل في الطرقات ويطوف في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب مثل الأُبُلَّة[2] وبقة[3] والأنبار[4] والحيرة[5]، يلتمس تعلُّم الحِيَل والنيرنجات، واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، ويُتابع أخبار المتنبِّئين[6].

يبدو أنَّه كان على قدرٍ من قوَّة البيان والشخصيَّة على عكس ما تصفه المصادر بأنَّه كان “رويجلًا، أُصيفر، أُخينس”[7]؛ إذ ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة والقبائل المجاورة، اشتهر بالخلابة والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، وخليقٌ بهذا أن يُظنُّ به السحر وتُنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنَّهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه فيُخيَّل إليهم أنَّه سرٌّ من الغيب أو معونةٌ من الجِنَّة والشياطين، وهو على هذا كان يُعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهَّان في بلاد العرب والعجم، ولم يكن في طبيعته بمعزلٍ عن طبائع السحرة وأدعياء الغيب[8]، وتسمَّى بالرحمن، فقيل له: رحمن اليمامة[9].

عندما كتب النبيُّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هوذة بن عليِّ الحنفي النصراني وأهل اليمامة، وأرسل كتابه مع سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري فاشترط هوذة أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: “لَا، وَلَا كَرَامَة، اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ”. فمات بعد قليل[10].

إسلام مسيلمة الكذاب
قدم مسيلمة إلى المدينة في بضعة عشر رجلًا من قومه بني حنيفة برئاسة سلمى بن حنظلة وفيهم الرجَّال بن عنفوة أحد وجهاء القبيلة؛ لإجراء مباحثاتٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإعلان إسلامهم، ويبدو أنَّهم أملوا -مقابل دخولهم في الإسلام- الحصول على موافقةٍ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم لخلافته، ويُذكر أنَّ بني حنيفة تُعدُّ من أضخم القبائل العربية وأوفرهم حظًّا بالمنعة والجاه، وقد دفعوا أوَّلًا بمسيلمة للوقوف على رأي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فاجتمع به منفردًا وطلب منه أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال له: “لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ -وكان بيده- مَا أَعْطَيْتُكَهُ وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ”[11]. ثُمَّ اجتمع أعضاء الوفد بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في المسجد دون مسيلمة، والواقع أنَّ ذلك كان متعمَّدًا، ولم تذكر المصادر ما دار في هذا الاجتماع، إنَّما روت خروج أعضاء الوفد وقد اعتنقوا الإسلام وأعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم جوائزهم، غير أنَّه استنادًا إلى تطوُّر الأحداث بعد ذلك يحملنا على الاعتقاد بأنَّهم كرَّروا طلب مسيلمة بأن يكون الأمر لهم بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفض طلبهم، ولمـَّا قرَّروا العودة خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: “إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا”. وهذا دليلٌ على أنَّ تخلُّف مسيلمة كان متعمَّدًا وفق خطَّةٍ مبيَّتة علَّهم ينتزعون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدًا أو ما يُشبه الوعد بتحقيق هدفهم، ولا شَكَّ بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أدرك فورًا هدفهم بأنَّ صاحبهم هذا هو مسيلمة، فلم يُميِّزه وساواه بأصحابه، وقال: “أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا، يَحْفَظُ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ”. فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: “عرف أنَّ الأمر إليَّ من بعده”[12]. فلمَّا عادوا إلى ديارهم ادَّعى النبوَّة متخذًا من حديث رسول الله مع وفد قومه وإخباره أنَّه ليس بشرِّهم مكانًا دليلًا على دعواه، وهذا تفسيرٌ أحاديُّ الجانب يتناقض مع قول النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الصريح بشأن وضعه.

نفاقٌ يُؤدِّي إلى تنبُّؤ
مهما يكن من أمرٍ فقد أدرك النبيُّ صلى الله عليه وسلم من خلال ما جرى مع وفد بني حنيفة أنَّ هؤلاء القوم سوف يغدرون به ويرتدُّون عن الإسلام، وأنَّ صاحبهم سيقودهم إلى شرِّ عاقبةٍ يُهلكهم بها، فهم وهو في شرٍّ سواء[13].

استغلَّ نهار الرجَّال بن عنفوة وجوده في المدينة فتعلَّم القرآن وتفقَّه في الدين، ووقف على تعاليم الإسلام، وكان هذا الرجل ذا بصيرةٍ وذكاء فعيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم معلِّمًا لأهل اليمامة يُفقِّههم في الدين، ويردُّ من اتَّبع منهم مسيلمة، ويشغب معهم عليه، ويشدُّ من عزائم المسلمين.

لكنَّ نهارًا كان أعظم فتنةً على بني حنيفة من مسيلمة، وما كان تفقُّهه إلَّا رياءً؛ فهو لم يلبث أن انضمَّ إليه، وأقرَّ بنبوَّته، وشهد بأنَّ محمَّدًا أشركه معه في الرِّسالة فالتفَّ بنو حنيفة حوله، ومن جهته فقد وضع مسيلمة كلَّ ثقته بنهار يستشيره في كلِّ أمرٍ يُقلِّد فيه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم[14].

اعتراف مسيلمة بنبوَّة النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
وبعد أن عاد مسيلمة إلى قومه أظهر دعوته، كتب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم كتابًا يدَّعي فيه مشاركته في الرسالة ويُساومه في اقتسام المـُلْك والسيادة في جزيرة العرب، فقال: “من مسيلمة رسول الله إلى محمَّدٍ رسول الله، سلام عليك فإنِّي قد أُشركت في الأمر معك، وإنَّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكنَّ قريشًا يعتدون”[15].

وأبى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذَّابين للتشكيك في أمر الدين، فكتب إليه: “بسم الله الرحمن الرحيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”[16].

اتَّخذ مسيلمة حرمًا باليمامة –كما أشرنا- فأُخذ الناس به فكان محرمًا، ونظَّم كلامًا مضاهاة للقرآن، وقصده الناس ليتسمعوا منه بعد أن اشتهر أمره وتمكَّن من التأثير في بعضهم، وكان ممن قصده المتشمِّس بن معاوية عمُّ الأحنف بن قيس، فلمَّا خرج من عنده قال عنه: إنَّه كذَّاب. وقال عنه الأحنف بن قيس وكان قد رآه -أيضًا-: ما هو بنبيٍّ صادق، ولا بمتنبِّئٍ حاذق[17].

تعصُّب أعمى
عُرف مسيلمة بين أتباعه برسول الله، وكانوا يتعصَّبون له ويُؤمنون بدعوته إيمانًا شديدًا، وكانت المنافسة بين قبائل مضر وربيعة على أشدِّها، والأخيرة تتعصَّب لنسبها وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوَّة والرئاسة، وليس أدلَّ على ذلك من طلب هوذة الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى رأي طلحة النميري الذي قَدِم إلى اليمامة للاجتماع بمسيلمة والوقوف على حقيقة دعوته واختبار نبوَّته؛ إذ عندما طلب الاجتماع به وسمَّاه باسمه -مسيلمة- ردَّ عليه قومه: “مه يا رسول الله. فقال: لا حتى أراه. فلمَّا جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نورٍ أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة. فقال: أشهد أنَّك لكذَّاب وأنَّ محمَّدًا صادق؛ ولكنَّ كذَّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضر”[18].

عصبيَّة قبليَّة
الراجح أنَّ مسيلمة كان يتوق إلى استعادة مركز قبيلته بني حنيفة، التي كانت تُضارع قريشًا في الجاهلية، ويطمع في أن يكون لها السيطرة على جزءٍ من بلاد العرب، وأنكر أهل اليمامة أن يكون محمَّدٌ رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريشٍ من حق؛ فلهم نبيٌّ ورسول، ولقريشٍ نبيٌّ ورسول. فلجأ إلى ادِّعاء النبوة كذبًا ليتمكَّن من تحقيق أغراضه وتطلُّعات قبيلته، فحرَّكته سياسيَّةٌ عصبيَّةٌ اتَّخذت من الدين قناعًا زائفًا، هذا ولا تُشير الأخبار التي تتحدث عنه عندما قَدِم مع وفد قومه إلى المدينة، ولا التي تتحدَّث عنه وهو في اليمامة إلى قبوله الإسلام، بل نجد فيها كلَّها أنَّه ظلَّ يرى نفسه نبيًّا مرسلًا من الرحمن وصاحب رسالة، لذلك ليس من الصواب أن نقول: ردَّة مسيلمة أو ارتداد مسيلمة، أو نحو ذلك؛ لأنَّه لم يعتنق الإسلام ثُمَّ ارتدَّ عنه حتى ننعته بالمرتد[19]! وتعاون مسيلمة في إحدى مراحل ادِّعائه النبوَّة مع سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية التي ادَّعت هي الأخرى النبوَّة، والتفَّ حولها قومها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من قبائل ربيعة، وتزوجها مسيلمة، وانضمَّ أتباعها إليه فتقوَّى بهم، وتحدَّى حكومة أبي بكر في المدينة.

المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كان اسمه مسلمة وصغَّره المسلمون تحقيرًا له.

[2] الأُبُلَّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة

البصرة، وهي أقدم من البصرة. الحموي: ج1 ص77.

[3] بقة: اسم موضع قريب من الحيرة. المصدر نفسه: ص473.

[4] الأنبار: مدينة على الفرات غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ، وكانت الفرس تُسمِّيها

فيروز سابور. المصدر نفسه: 257.

[5] الحيرة: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يُقال له النجف، وكانت

مسكن ملوك العرب في الجاهلية من عهد نصر، ثُمَّ من لخم النعمان وآبائه، وكان عمرو بن

عدي بن نصر اللخمي أوَّل من اتخذها منزلًا من الملوك، وهو أوَّل ملوك اللخميين من آل

نصر. المصدر نفسه: ج2 ص328- 331.

[6] الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب الحيوان: ج4 ص369 وما بعدها.

[7] الطبري: ج3 ص295، والبلخي: ج2 ص197.

[8] العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد: ص97.

[9] البلخي: ج2 ص195، 196.

[10] البلاذري: ص97.

[11] ابن كثير، الحافظ عماد الدين أبو الفداء: البداية والنهاية: ج5 ص50.

[12] الطبري: ج3 ص137، 138.

[13] السهيلي: ج4 ص225، وابن كثير: ج5 ص50-52.

[14] الطبري: ج3 ص282-287.

[15] المصدر نفسه: ص146.

[16] البلخي: ج3 ص196.

[17] الطبري: ج3 ص283، والجاحظ: ج5 ص530.

[18] الطبري: ج3 ص286.

[19] علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: ج6 ص97.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 5 / 5. عدد الأصوات: 1

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

Don Quixote By Miguel de Cervantes

Next Post

Life of Pi By Yann Martel

Related Posts