dark

رييل ستوري | قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه والمسائل المستنبطة منها

اعلانات

قصة ثُمَامَة بن أُثال رضي الله عنه

 

هو ثُمَامَة[1] بن أُثال[2] بن النعمان بن مَسْلَمةَ الحنفيُّ، فهو من بني حنيفة في اليمامة، وكان سيد أهل اليمامة، ويُقال له: سيد بني حنيفة أيضًا، وهو رضي الله عنه أحدُ أشراف بكر بن وائل.

وحدثت قصة ثُمَامَة رضي الله عنه هذه مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم يومَ كان رضي الله عنه خارجًا من بلده نحو مكة لأداء العمرة، ولم يكن مسلمًا يومها، بل كان على دين أهل الجاهلية، كما كان محاربًا للإسلام.

فكان من قصته رضي الله عنه أن:

((بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَلَ نجد[3]، فجاءت برجل من بني حنيفة، يُقال له: ثُمَامَة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.

فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

ما عندك يا ثُمَامَة؟ فقال:

عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دمٍ، وإن تُنعِم تُنعِمْ على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسَلْ منه ما شئت.

فتُرك حتى كان الغد، ثم قال له صلى الله عليه وسلم:

ما عندك يا ثُمَامَة؟ قال ثُمَامَة:

ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر.

فتركه صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال صلى الله عليه وسلم:

ما عندك يا ثُمَامَة؟ فقال ثُمَامَة:

عندي ما قلت لك، فقال صلى الله عليه وسلم:

أطلِقوا ثُمَامَةَ.

فانطلق ثُمَامَة إلى نجل[4] قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال:

أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغضُ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ.

والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين إليَّ.

والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إليَّ.

وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟

فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.

فلما قدم مكة، قال له قائل:

صبوت[5]، قال ثُمَامَة رضي الله عنه:

لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة[6] حبَّةُ حِنطةٍ حتى يأذَنَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم))[7].

 

المسائل المستنبطة من القصة:

المسألة الأولى: إن العرب قبل الإسلام وعلى الرغم من كفرهم وشركهم، فإنهم كانوا يعظِّمون ويقدِّسون الكعبة المشرفة؛ لأنها بيت الله الحرام، وإنهم يقطعون الفيافيَ من أجل أن يحُجُّوا أو يعتمروا، وهذا هو السبب الذي دفع ثُمَامَة بن أُثال رضي الله عنه ليخرج من اليمامة قبل إسلامه، سالكًا طريق نجدٍ للوصول إلى الكعبة المشرفة ليؤدي العمرة، لكن السَّرِيَّة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثها بمهمة عسكرية في محرم في السنة السادسة من الهجرة في أرض نجد، ويرأسها محمد بن مسلمة[8] رضي الله عنه أمسكت بثُمَامَة بن أُثال، وجاءت به أسيرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وكان العرب قد عاشوا بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دهرًا على التوحيد وعلى ملة إبراهيم عليه السلام قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى غيَّر عمرو بن لُحَيٍّ دينَ إبراهيم عليه السلام، فأدخل الأصنام إلى جزيرة العرب، وعمِل أعمال الشرك؛ لذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ورأيت فيها عمرو بن لُحَيٍّ وهو الذي سيَّب السوائب[9]))[10]؛ أي: إنه صلى الله عليه وسلم رآه في جهنم.

المسألة الثانية: الإسلام دين مثاليٌّ وواقعيٌّ، ومثاليته في أنه يراعي متطلبات حاجات النفس البشرية من منح الحقوق والإنصاف، وحفظ الكرامة، والدفاع عن النفس، وغيرها، فمن هذا المبدأ سمحت الشريعة للمسلمين أن يتعاملوا مع المشركين بالمثل، فمثلما كان المشركون يحاربون المسلمين، وقد فعلوها في بدر وأُحُدٍ والخندق، فمن حق المسلمين أن يتعاملوا معهم بالمثل؛ قال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]، فليس في الإسلام من يضربك على خدِّك الأيمن، فتُعطيه خدك الأيسر، لا، بل في الإسلام: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 39، 40]، وفي الإسلام: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا والجيوشَ لنَصْبِ الكمائن وحرب الأعداء.

المسألة الثالثة: في الحياة ومن أعراف وقِيَمِ الناس أنه لا بد من إنزال الناس منازلهم، وقد تبنَّى الإسلام ذلك، بل زاد عليه، فالسيد وكبير القوم والعالِم وغيرهم من أمثالهم ينبغي أن يُعطَوا المكانة المناسبة، ويُمنحوا التقدير المناسب، وأن يُخاطَبوا بلغة يفهمونها وتليق بهم، ويُكرَموا، حتى وإن كانوا أُسارى؛ طمعًا في كسبهم إلى صف المسلمين، فبكسبهم قد تهتدي أُمَّةٌ؛ تقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنزِلَ الناس منازلهم))[11]، وتحت هذا المبدأ تعامَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مع ثُمَامَة بن أُثال رضي الله عنه، فكانت النتائج عظيمة، ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تجدون الناسَ معادنَ، خِيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فقُهوا، وتجدون خيرَ الناس في هذا الشأن أشدَّهم له كراهيةً))[12].

المسألة الرابعة: إن الأقدار تُخـبئ لنا من الخير ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فقد خرج ثُمَامَة رضي الله عنه وهو ينوي العمرة، ولكن على طريقة المشركين، ولكن الله جل جلاله كتب له أنه يهتدي في هذا السفر، على الرغم من أنه لم يفكر بأن يُسلِمَ ويعتمر وهو مسلم، فقد أُسِرَ ثُمَامَةُ رضي الله عنه، وكل إنسان لا يحب أن يُؤسَر، فكيف عندما يكون هذا الإنسان سيدَ قومه؟ ولكن جعل الله جل جلاله هذا الأَسْرَ سببًا لهدايته رضي الله عنه؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل))[13]، وما حدث لثُمَامَة رضي الله عنه هنا من هذا القبيل.

المسألة الخامسة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَامَة رضي الله عنه مربوطًا في المسجد ثلاثة أيام؛ من أجل أن يستمع للأذان وهو يدوِّي، وللأذان تأثير عجيب في النفوس، ولعل هذا هو السبب الذي شُرِعَ من أجله أن يُؤذَّن في أذن المولود ساعة ولادته، ومن أجل أن يرى ثُمَامَة رضي الله عنه كيف يصلي الناس، وكيف يتعامل المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، فيرى ثُمَامَة رضي الله عنه الإسلامَ على حقيقته من غير تكلُّف، فيندهش، فإذا دهش تأثَّر، فلعل قلبه أن يرِقَّ وينشرح للإسلام، وتلك حكمة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يريد أن يدعوه للإسلام، ولأنه رضي الله عنه كان أسيرًا وهو سيد قومه، فإن تلك الخَصلة قد تمنعه من أن يُسلِمَ؛ والله جل جلاله يقول: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

المسألة السادسة: كان ثُمَامَة بن أُثال رضي الله عنه سيدَ قومه كما ذُكِرَ، والسيد يتكلم بمنطق السادة والكبار، حتى وإن كان أسيرًا، فعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منه أن يتكلم شرح موقفه للنبي صلى الله عليه وسلم بثلاث كلمات، لم يَزِدْ عليها:

الأولى: قوله: (إن تقتلني تقتل ذا دم)، وهذه الكلمة حمَّالة أوجه؛ فقد تأتي بمعنى أنه ذو شأن ومكانة، وأن دمه عند قومه غالٍ، ففي حالة قتله سيجد المسلمون من قومه رضي الله عنه من يطالب بدمه، ويسعى للانتقام من قاتله، وهي لغة قد تُضمِر بين طيَّاتها تهديدًا، وهذا هو حال السادة في الناس، فإنهم لا يخضعون بسهولة، ولا يُعطُون الدنِيَّة في المواقف.

وقد تأتي بمعنًى آخر؛ وهو أنه دم مطلوب به، ومستحق عليه؛ لأنه محارب للمسلمين، وقد يكون قد أصاب دمَ مسلمٍ هو أو قومه، وهذه هي الأعراف في الناس، من يمسك بعدوه يقتله، فلا عَتَبَ عليك في قتله، وتُشفى قلوب المؤمنين بقتله، ويدركون ثأرهم منه، وهي لغة تهدئ من رَوعِ المنتقم، وتعطيه فرصة للتفكير، وهو دهاء من ثُمَامَة رضي الله عنه.

الثانية: (وإن تنعم تنعم على شاكر) وتعني: إن عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فإن هذا الموقف هو موقف معروف وفضل، وأن ثُمَامَة رضي الله عنه رجل كريم وأصيل، فسيحسب ذلك حسنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ولن ينساه له، ولن ينكره، وسيأتي اليوم الذي يرُدُّ الجميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: (وإن كنت تريد المال فسَل منه ما شئت)، وهو عَرضٌ للفداء، وهذا عرف قديم وشائع بين الناس، فالأسير يفدي نفسه بالمال، وهذا العرض عرض من سيد قومٍ، وفداء سيد القوم ليس كفداء عامة الناس، فيمكن أن تكون فديته أموالًا طائلة.

دَارَ هذا الحوار في اليوم الأول، وثُمَامَةُ رضي الله عنه لا يدري على وجه اليقين ماذا سيفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، أهو قاتله، أم تاركه، أم شيء آخر؟ فكان رضي الله عنه أن قدَّم له الخيارات الثلاثة أو العروض الثلاث، وهذا من ذكائه ودهائه رضي الله عنه، فهو لم يكن متهورًا، فيهدِّد ويتكلم كلامًا يغيظ خصمه، ولم يكن خائفًا ولا مترددًا، ولم يذل نفسه بالتوسل، فإن البعض في مثل هذا الموقف ربما قبَّلوا الأيادي والأقدام من أجل النجاة، ولكن ثُمَامَة رضي الله عنه لم يفعل ذلك، واتخذ بين ذلك سبيلًا، ولعل ذلك أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك ثُمَامَة رضي الله عنه في اليوم الأول في المسجد، فكان رضي الله عنه ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، كيف يتعامل بعضهم مع بعض، وكيف يقيمون صلاتهم، وكان هذا الأمر مقصودًا من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك كان قد أمر أصحابه أن يُحسنوا إليه وأن يُطعموه.

المسألة السابعة: في اليوم الثاني عاد النبي صلى الله عليه وسلم لثُمَامَة رضي الله عنه، فسأله نفس سؤال اليوم الأول، هنا بان ذكاء ودهاء ثُمَامَة رضي الله عنه وفطنته، فإنه رضي الله عنه لم يعُد للخيارات الثلاثة نفسها، بعد أن اطمأنت نفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أيقن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بقاتله، ولم يكن هدفه صلى الله عليه وسلم في رسالته سفكَ الدماء بلا سبب ولا فائدة، كما أن المال وإن كثُر لا يعنيه صلى الله عليه وسلم مقابل كسب قلوب الرجال، فهو صلى الله عليه وسلم يريد من الرجل قلبه.

قدم ثُمَامَة رضي الله عنه في هذه المرة عرضًا واحدًا بقوله رضي الله عنه: (إن تنعم تنعم على شاكر)، فهي رسالة تحمل بين طيَّاتها أن ثُمَامَة رضي الله عنه يرغب – بل يطمع – بأن يعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سيشكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنعم عليه وأطلقه، والنبي صلى الله عليه وسلم فَهِمَ هذا المعنى، ولكنه رأى أن يتركه يومًا آخر؛ ليرى ثُمَامَة رضي الله عنه مزيدًا من الخير الذي في الإسلام.

ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم لثُمَامَة رضي الله عنه في اليوم الثالث، وسأله نفس السؤال، وكان موقف ثُمَامَة ثابتًا لم يتغير، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يطلقوه، بعدما تيقن صلى الله عليه وسلم أن هذا السيد سيقوده عقله للحق، وأنه سيكون دعمًا وسندًا وكسبًا للإسلام.

وبالفعل خرج ثُمَامَة رضي الله عنه، وسأل الناس عن: كيف يدخل في الإسلام؟ فأرشدوه بأن يغتسل ويأتي لينطق شهادة الإسلام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فعل ذلك، وبعد إسلامه رضي الله عنه مباشرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم كلمات عظيمة وأولها قوله: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ)، لقد انقلب كره ثُمَامَة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ولدينه إلى حبٍّ، بل هو الحب الأول والأكبر، وهكذا هي الهداية تأتي من الله جل جلاله مرة واحدة، وقد كان ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نورٍ وهَيبةٍ وصدق أسبابًا لإيمان ثُمَامَة رضي الله عنه، وليس ثُمَامَة هو الوحيد الذي تأثر بوجه رسول الله وأحبَّه، بل هناك آخرون ومنهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه؛ حيث يقول: “لـما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، انجفل الناس قبله، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله ثلاثًا، فجئت في الناس، لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب”[14].

المسألة الثامنة: يُستحَبُّ لمن يدخل في الإسلام أن يغتسل، ثم يجب عليه أن ينطق شهادة الإسلام، فإن لم يتسنَّ له الغسل، فله أن يشهد شهادة الإسلام من غير غسل؛ لأنه ليس بواجب، كما أن الغسل ليس شرطًا للدخول في الإسلام.

المسألة التاسعة: ثم بعد ذلك وضع ثُمَامَة نفسه تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله رضي الله عنه: (وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)، وهذا فَهمٌ راشد، فالمسلم التقيُّ النقيُّ ينبغي أن يضع نفسه تحت تصرف الشرع، لا أن يجتهد في مجمل أمور حياته من هوى نفسه؛ لأن الله جل جلاله يقول: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6][15]، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا، فإن ثُمَامَة رضي الله عنه وضع نفسه تحت تصرف النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسبُ المسلم كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يلتزم بهما؛ لأن الإنسان المسلم مأمور باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دون ذلك لا شيء إلا هوى النفس؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].

المسألة العاشرة: وفَّى ثُمَامَة رضي الله عنه بما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه رضي الله عنه سيكون شاكرًا له إن منَّ عليه، والوفاء بالعهود من شِيَمِ الرجال والفرسان، فدخل رضي الله عنه مكة ملبيًا: (لبيك اللهم لبيك)، وهو يلبس ثياب الإحرام، معظمًا شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام كما يفعل المسلمون، فكان رضي الله عنه أول مسلم يدخل مكة ملبيًا، فأغاظ ذلك الأمر قريشًا فهمُّوا بقتله، ولكنه رضي الله عنه كان محتاطًا وذكيًّا، فهدَّدهم بتجارتهم مع اليمامة؛ ذلك أن الحنطة التي هي أساس قوتهم كانت تأتيهم من اليمامة، فتركوه، ولكن ثُمَامَة رضي الله عنه زاد من مواقف شكره ووفائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع الحنطة عن قريش في مكة حتى جاعوا وأوشكوا أن يهلكوا، فلاذ أهل مكة برسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه حلًّا، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفكَّ الحصار على أهل مكة، ففعل ثُمَامَة رضي الله عنه.

وأكمل ثُمَامَة رضي الله عنه مواقفه النبيلة بأنه ثبت يوم ارتدت بنو حنيفة وغيرها من العرب عن الإسلام، فلم تجرُفه الفتنة، وثبت على إيمانه، وأعدَّ رضي الله عنه جيشًا سار معه ليكون مع جيش العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في حربهم لأهل البحرين المرتدين في حينها.

المسألة الحادية عشرة: من أهم الصفات الإيجابية للصحابة رضي الله عنهم طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة طبيعية لما كانوا قد ألزموا أنفسهم بما أَعطَوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا على السمع والطاعة في بيعتهم الأولى له يومَ أسلموا؛ فيقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في الْمَنْشَطِ والْمَكْرَهِ))[16]، لذلك فإنهم رضي الله عنهم لم يعترضوا، ولم يناقشوا، عندما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُطلِقوا ثُمَامَة رضي الله عنه من غير فدية ولا غيرها.


[1] الثُمَامَة مفرد الثُّمام؛ وهو نبات ضعيف قصير، له زهرة صغيرة تشبه السنبلة، وفيه قالت العرب: الغريقُ يتشبَّثُ بِثُمَامَة؛ أي: يُمسك بأضعف الأشياء أملًا في النجاة، ومنها ارتبط الاسم بالنجاة.

[2] الأُثال: المال والشرف والمجد.

[3] نجد: هي أحد أقاليم شبه الجزيرة العربية التاريخية، وأكبرها مساحة، وتقع في وسط شبه الجزيرة، وكانت نجد موطنًا تاريخيًّا لمملكة كندة، وبني زيد، وبني حنيفة، وبني أسد، وبني تميم، وهوازن، وغطفان، وغيرهم.

[4] النَّجْلُ: الغَدير الذي لا يزال فيه ماء دائم.

[5] صبوت: أي: خرجت من دينك إلى غيره، قالوه لثُمَامَة رضي الله عنه على جهة الذم والعيب؛ ولذلك قال في الجواب: لا؛ أي: لم أخرج إلى ذمٍّ وعيب، ولكن أسلمت، فجاء بلفظ يُوجِب المدح.

[6] جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي (5/ 441): “بين اليمامة والبحرين عشرة أيام، وهي معدودة من نجد”.

[7] صحيح البخاري (4114).

[8] انظر: السيرة النبوية لابن كثير، ج3، ص 285.

[9] السائبة: هي الدابة (الناقة) أو غيرها تُسيَّب للآلهة، فلا تُمنع من مرعًى، ولا تُطرد عن ماء، ولا تُركب، ولا يُنتفَع منها.

[10] صحيح البخاري (1154).

[11] صحيح مسلم – المقدمة.

[12] صحيح البخاري (3493).

[13] صحيح البخاري (2848).

[14] سنن ابن ماجه (1334).

[15] أي: فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.

[16] صحيح البخاري (7199).



تمت قراءة هذا المقال بالفعل19 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | الإسلام منهج ميسر

Next Post

رييل ستوري | قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت

Related Posts

رييل ستوري | (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا)

تفسير: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)   ♦ الآية: ﴿…
Read More