موقف المسلم من الفتن
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ مِنْ دَقِيقِ الأَمْرِ وَجِلِّهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أما بعد:
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه؛ فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ عِصْمَةً مِنَ الضَّلالَةِ، وَسَلامَةً مِنَ الْغِوَايَةِ، وَأَمْنًا مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَنَجَاةً مِنَ الْمَهَالِكِ، وَمَنْ حَقَّقَ التَّقْوَى آتَاهُ اللهُ نُورًا وَضِيَاءً، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الضَّلالَةِ وَالْهُدَى.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
عباد الله، لقد كثرت الفتن في هذا الزمان، وأصبح المسلم يرى الفتن بُكْرةً وعشيًّا، وحلَّ من البلايا والنوازل الشيءُ الكثير، وما ذاك إلَّا بسبب ما آل إليه حالُ المسلمين من ضياعٍ وتشتُّت، وبُعْدِهم عن منهج الإسلام.
وقد أنذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الفتن وحذَّر من الوقوع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ))، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: ((الْقَتْلُ)).
إِخْوَةَ الإِسْلامِ والإِيمَانِ، إِنَّ مِنْ دَلائِلِ التَّوْفِيقِ أَنْ يَسْتَقِيمَ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ اللهِ، وَيَثْبُتَ عَلَيْهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالاتِهِ: فِي حَالِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَيَكُونَ عَابِدًا شَاكِرًا للهِ فِي حَالِ السَّرَّاءِ، وَصَابِرًا مُحْتَسِبًا فِي حَالِ الضَّرَّاءِ.
مُلْتَزِمًا نَهْجَ رَسُولِ الْهُدَى عليه الصلاة والسلام، الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ أُمَّتَهُ إِلَيْهِ، إِذْ مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عليه الصلاة والسلام إِلَى الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ حَتَّى تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، الْوَاضِحَةِ لِلسَّالِكِينَ، كَمَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَكُونُ فِي الأُمَّةِ بَعَدَهُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مِنْ تَفَرُّقٍ وَاخْتِلافٍ، وَنِزَاعٍ وَشِقَاقٍ، يَنْشَأُ عَنْهُ فِتَنٌ عُظْمَى.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَها بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيء فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيء الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ))؛ رواه مسلم في “صحيحه” من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، لا شَكَّ أَنَّ الإِسْلامَ قَدْ أَرْشَدَ الْمُسْلِمَ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَجْتَنِبُ بِهَا الْوُقَوعَ فِي الْفِتَنِ، ومِنْهَا:
التَّعَوُّذُ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ فَدُعَاءُ اللهِ – تَعَالَى- خَيْرُ وِقَايَةٍ مِنَ الْفِتَنِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَالْمُسْلِمُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ لِتَجْنِيبِهِ الْفِتَنَ، وَيَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَتَتُوبَ عَلَيَّ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ))؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ من حديث معاذٍ رضي الله عنه وصحَّحه الألباني.
وَأَرْشَدَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام أَمَّتَهُ إِلَى الاِلْتِجَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْفِتَنِ، فَقَالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
وَمِنْ مَوَاقِفِ الْمُسْلِمِ الْعَظِيمَةِ قَبْلَ الْفِتَنِ وَأَثْنَاءَهَا: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ للهِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الإِنْسَانَ مِنْ فِتْنَةٍ وَبَلاءٍ إِنَّمَا هُوَ بِقَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ؛ ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
وَمِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ مِنَ الْفِتَنِ الْوَحْدَةُ وَالاِئْتِلافُ، وَتَرْكُ التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلافِ، وَالاِعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ولزوم الجماعة، فَبِالْوَحْدَةِ تَقْوَى الشَّوْكَةُ، وَيَعِزُّ الدِّينُ، وَيَذِلُّ الْكُفْرُ، يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ((يدُ اللهِ مع الجماعة))؛ رَوَاهُ النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد أوصى ابنُ مسعود رضي الله عنه من سألوه عن الفتن بقوله: “اتقوا الله واصبروا حتى يستريحَ بَرٌّ، أو يُستَرَاحَ من فَاجِر، وعليكم بالجماعة؛ فإن الله لا يجمع أُمَّةَ محمدٍ على ضلالة”.
فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟! قَالَ: ((نَعَمْ))، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا))، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: ((هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا))، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟! قَالَ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ))، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ! قَالَ: ((فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ))؛ متفق عليه.
واعلموا عباد الله أنَّ الجماعةَ ليست بالكثرة؛ ولكنَّ الجماعة من كان على منهج أهل السُّنَّة والجماعة، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “لو أن فقيهًا على رأس جبل لكان هو الجماعة”.
وَمِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا الْمُسْلِمُ الْفِتَنَ الْحِرْصُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَيَّامَ الْفِتَنِ، وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام فَضْلَ الْعِبَادَةِ أَيَّامَ الْهَرْجِ وَالْقَتْلِ وَاخْتِلافِ الأُمُورِ، فَقَالَ: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، هَكَذَا فَلْيَكُنِ الْمُسْلِمُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ؛ قَوِيَّ الصِّلَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ومما يعصم من الفتن: التأنِّي والرِّفْقُ والحلمُ وعدمُ العجلة، حتى يَرَى الأمورَ على حقيقتِها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ))؛ رَوَاهُ مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال لأشج عبد القيس: ((إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ))؛ رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصحَّحَه الألباني.
ومما يعْصِمُ من الفتن: التَّسَلُّحُ بالعلم الشرعي؛ فالعلم الشرعي مطلبٌ مهمٌّ في مواجهة الفتن؛ ليكون المسلمُ على بصيرةٍ من دينه، ومن فقد العلم الشرعي تخبَّطَ في الفتن، قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: “إذا انقطع عن الناس نور النبوَّة؛ وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم”.
ومما يعْصِمُ من الفتن، الثقةُ بنصر الله، وأن المستقبلَ للإسلام، مهما ادلهمَّت الظلمات، واشتدَّت الفتن، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].
ومما يعْصِمُ من الفتن: النظرُ في عواقب الأمور، ففي زمن الفتن ليس كُلُّ مقالٍ يُقَال، ولا كُلُّ فعلٍ يُفْعَل، وإن بَدَا لك حَسَنًا حتى تعلمَ عواقبَه وما يترتَّب عليه، فقد سكت السلف الصالح عن أشياء كثيرة أحبُّوها؛ طلبًا للسلامة في دينهم.
ومما يعصِمُ من الفتن: الالتفاف حول العلماء الربانيِّين؛ أئمةِ أهل السُّنَّة والجماعة؛ فهم أنصارُ شرعِ الله، والذين يبينون للناس الحقَّ من الباطلِ، والهُدَى من الضلال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ مِن النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ))؛ رواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه، فحضور حِلَقِهِم، وزيارتهم، وتوثيق العلاقةِ بهم؛ يقطع على أعداءِ الإِسلام السبيل للنخر في الإِسلام وتمزيق وحدة المسلمين.
فالعلماء هم القدوة، وهم المربُّون، وهم العونُ بعد الله في هذا الطريق ومن هذه الفتن، والذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، يقول ابنُ القيم رحمه الله: “وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه – يعني شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كُلُّه عنا”.
واعلموا عباد الله أنَّ الصبر من أعظم ما يُعين على الاعتصام من الفتن، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا مِنْكُمْ))؛ رواه الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحَّحه الألباني.
وعن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعتُ هذا من نبيِّكم صلى الله عليه وسلم.
ومما يعصم من الفتن: البعدُ عن مواطنها، وعدمُ التعرُّضِ لها أو الخوضِ فيها، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجأ فَلْيَعُذْ بِهِ))؛ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال النووي رحمه الله تعالى: “معناه: بيانُ عظيمِ خطرِهَا، والحثُّ على تجنُّبِهَا، والهرَبُ منها ومن التشبثِ في شيء منها، وأنَّ شرَّهَا وفتْنَتَها يكونُ على حَسَبِ التَّعَلُّقِ بها”.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: “لا تقربوا الفتنة إذا حَمِيَتْ، ولا تعرَّضُوا لها إذا عَرَضَتْ، واضْرِبُوا أهْلَهَا إذَا أقْبَلَتْ”.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الواحدِ القَهَّارِ، يَخلُقُ ما يَشاءُ ويَختَارُ، جَعَلَ بَعْضَ خَلْقِهِ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، وله في كُلِّ تَصرِيِفٍ أَمْرٌ وحِكْمَةٌ، نشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، ذو الغَلَبَةِ والاقتِدَارِ، وَنَشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَاركَ عليهِ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم القَرارِ.
عباد الله، إِنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ وَقْتَ الْفِتَنِ خَاصَّةً: دَلِيلُ كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ الإِسْلامِ، وَفِيهِ السَّلامَةُ مِنَ الْعَطَبِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ، فَالْحَدِيثُ عَنِ الآخَرِينَ وَتَتَبُّعُ سَقَطَاتِهِمْ وَإِشَاعَتُهَا، وَالْفَرَحُ بِهَا مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي أَثَرًا، وَأَكْثَرِهَا إِثْمًا، وَلا يَمُوتُ مُقْتَرِفُهَا حَتَّى يُبْلَى بِهَا، ((وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَسَائِلَ خِلافٍ بِلا هُدًى، وَنَوَازِعَ طَيْشٍ عَلَى هَوًى، وَحُبَّ غَلَبَةٍ وَرَغْبَةَ اسْتِعْلاءٍ، وَإِرَادَةَ خَفْضٍ لِلآخَرِينَ؟! فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ غِيبَةً لأَهْلِ الْخَيْرِ، وَتَحْرِيشًا خَفِيًّا أَوْ جَلِيًّا بِالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الصَّلاحِ، وَتَصْنِيفًا ظَالِمًا بَلا بُرْهَانٍ وَلا بَيِّنَةٍ، وَغَمْزًا، وَلَمْزًا، وَسُخْرِيَّةً، وَاتِّهَامًا لِلْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ؟!
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾ [الانفطار: 10، 11]، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ))؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني.
هذا وصلُّوا عباد الله على رسول الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّد، وارضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاءِ الأربعة الرَّاشدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم مَتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، واجعلنا أهلًا لأن يُستجاب دعاءنا يا رب العالمين.
واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك.
اللهم اهدنا إلى السنن، وأعذنا من الفتن، وارزقنا الاقتداء بنبيِّك، والاقتداء بسُنَّته والتمسُّك بها في كل زمان ومكان.
اللهم أعِنَّا على التمسك بسُنة رسولك وحبيبك صلى الله عليه وسلم.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداةً مهتدين، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم أصلح حال المسلمين.
اللهم اجمع كلمتهم على الحق ورُدَّهم إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللهم إنا نعوذ بك من جَهْد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا، أو نجرّه إلى مسلم.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الحليم يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل11 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.