قارون أحد المجرمين الكبار، ومن القلائل الذين ذكر اسمهم في القرآن الكريم [1]، كنموذج لمن أعطي النعم الكثيرة فقابلها بالكفر، وقد رزقه الله نعمة فرصة الهداية لقربه من موسى عليه السلام فرفضها، ورزقه نعمة المال الكثير فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].

وواضح أنه كان حيثية كبيرة في الدولة، وكذلك في بني إسرائيل، لدرجة أن الله تعالى ساواه بفرعون وهامان في إرسال الرسالة. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23، 24].
لم يكتف قارون بالكفر، ولم يكتفِ بموالاة فرعون على حساب موسى، ولم يكتفِ بادِّعاء التحصُّل على ثروته بجهده دون نسب الفضل إلى الله، إنما حاول أن يُفَشِّل دعوة موسى عليه السلام عن طريق اتِّهامه زورًا بالفاحشة، فكانت النهاية المحتومة، وهي عملية الخسف المباشر.

ورد وصف هذه العملية في حديث صحيح في مستدرك الحاكم، ومصنف ابن أبي شيبة، وفي كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وهو موقوف على ابن عباس رضي الله عنه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه ، قَالَ: لَمَّا أَتَى مُوسَى قَوْمَهُ أَمَرَهُمْ بِالزَّكَاةِ، فَجَمَعَهُمْ قَارُونُ فَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا قَدْ جَاءَكُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَبِأَشْيَاءَ تُطِيقُونَهَا، تَحْتَمِلُونَ أَنْ تُعْطُوهُ أَمْوَالَكُمْ؟». فَقَالُوا: لَا نَحْتَمِلُ أَنْ نُعْطِيَهُ أَمْوَالَنَا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: "أَرَى أَنْ أُرْسِلَ إِلَى بَغِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنُرْسِلَهَا إِلَيْهِ فَتَرْمِيَهُ بِأَنَّهُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، (فَفَعَلُوا، فَرَمَتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ) فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ (نفس معجزة شق البحر، ولكن في الأرض)، فَقَالَ مُوسَى لِلْأَرْضِ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْقَابِهِمْ" فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى، ثُمَّ قَالَ لِلْأَرْضِ: «خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ» فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى، ثُمَّ قَالَ: «لِلْأَرْضِ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ» فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى فَقَالَ لِلْأَرْضِ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ فَغَيَّبَتْهُمْ.

 ليس هناك علاقة بمكان الخسف وبحيرة قارون في الفيوم ب مصر، حيث إن هذه البحيرة موجودة قبل زمن موسى عليه السلام، وقد ثبت أن إمنمحات الثالث أمر بحفر قناة بين البحيرة ونهر النيل، وهذا من الأسرة الثانية عشرة وحكم من 1860 ق م إلى 1814 ق م، وهذا قبل زمن موسى (حوالي 1200 ق م)

أما تسمية البحيرة فمختلف عليها؛ فالبعض يقول إنها محرفة من كلمة فرعونية اسمها بارون، والبعض يشير إلى أن البحيرة كانت مليئة بالخلجان التي تعرف باسم «قرن»، مثل قرن أبي نعمة، وقرن الجزيرة، ولذلك سميت بحيرة القرون، ثم حرفت إلى بحيرة قارون.
 
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى يَا مُوسَى سَأَلَكَ عِبَادِي وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ فَلَمْ تُجِبْهُمْ، وَعِزَّتِي لَوْ أَنَّهُمْ دَعَوْنِي لَأَجَبْتُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] خُسِفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى.

هذا ليس لومًا لموسى عليه السلام، وليس خطأ منه، وإلا لما أمر الله الأرضَ أن تطيعه إلى النهاية، ولكن هي توضيح للفرق بين العبد والرب، فالعبد يرى بعينه، وبعد المحاولات الكثيرة للدعوة، أن هذا الإنسان بعيد عن الإيمان، وليس هذا فقط، إنما هو منفِّر للناس عن الدين، فبقاؤه صار مؤذيًا لغيره، فهنا يطلب النبي من الله تعالى أن يخلِّصه من هؤلاء المجرمين لأنهم يعوقون إيمان الآخرين ويفتنونهم.

شبيه بهذا قول نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]. قالها بعد أن أخبره الله تعالى في سورة هود: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36].

وشبيه بذلك أيضًا دعاء النبي ﷺ على أكابر المجرمين السبعة: ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» – وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ (وهو عمارة بن الوليد).

لكن الرب يعطي الفرصة إلى الغرغرة، ويقبل من العبد التوبة، وحلمه ليس كحلم البشر، وصبره ليس كصبر البشر. قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].

هذا الوصف في الخسف ورد في الحديث: روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ، يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وأورده البخاري في باب "ما ذُكِر عن بني إسرائيل"، وورد في روايات ضعيفة جدًا أن المقصود هو قارون، ويدعم ذلك ما قاله الله تعالى قبل الخسف بقارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].
 
الخلاصة:
ينبغي أخذ العبرة من هذه القصص، وعدم الانبهار بما يحوزوه أهل الدنيا من ثروات، خاصة إذا كانوا بعيدين عن منهج الله. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 80 – 83][2].

[1] ذُكر اسم قارون في القرآن الكريم 4 مرات.
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
 

تمت قراءة هذا المقال بالفعل249 مرة!