dark

رييل ستوري | حكم عقد الاستصناع

اعلانات

حكم عقد الاستصناع

 

اختلف أهل العلم في حكم عقد الاستصناع على قولين:

القول الأول: المنع من عقد الاستصناع على غير وجه السلم.

وهو قول الجمهور، من المالكية،[1] والشافعية،[2] والحنابلة،[3] وزفر[4] من الحنفية[5].

 

ففي مواهب الجليل: “وإن اشترط عمله من نحاس، أو حديد بعينه، أو ظواهر معينة، أو عمل رجل بعينه لم يجز وإن نقده؛ لأنه غرر، لا يدري أسلم إلى ذلك أم لا، ولا يكون السلف في شيء معين”[6].

 

وفي الحاوي: “ولا يجوز السلم في النبل؛ لأنه لا يقدر على ذرع ثخانتها؛ لرقتها، ولا وصفه ما فيها من ريش، وعقب، وغيره”[7].

 

وفي الإنصاف: “لا يصح استصناع سلعة؛ لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم”.[8]

 

واستدلوا من السنة، والإجماع:

(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه الخمسة[9] عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يأتينى الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق؟ فقال: ” لا تبع ما ليس عندك “.

 

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند البائع، والاستصناع بيع ما ليس عند الصانع، فهو إنما يصنعه بعد العقد، فشمله النهي الوارد في الحديث، ولا يستثنى من ذلك إلا السلم؛ لثبوته بالنص، فلا يصح الاستصناع إلا على وجه السلم[10].

 

ونوقش هذا الاستدلال: بأن العلة في النهي عن بيع ما ليس عند البائع هي المخاطرة في وجود المبيع أو عدم وجوده، والاستصناع كالسلم لا يعجز الصانع عن تسليمه عند حلول الأجل[11].

 

(2) واستدلوا بالإجماع: على منع بيع الدين بالدين[12].

 

ووجهه: أن المجيزين للاستصناع أجازوا فيه تأجيل العوضين، فدخل في المنع المجمع عليه.

 

ونوقش من وجهين:

الأول: أن الصور التي استثناها العلماء من النهي عن بيع الدين بالدين صور كثيرة،[13] والحاجة ماسّة لتأخير العوضين في الاستصناع؛ فيستثنى من النهي كذلك.

 

والثاني: أن شأن البدل أن يكون مقابلاً للمبدل، ولما كانت المنفعة تحدث شيئاً فشيئاً، ولا يمكن استيفاؤها حالاً لم يلزم بدلها حالًا[14].



القول الثاني: صحة عقد الاستصناع مطلقًا:

وهو قول الحنفية عدا زفر،[15] وقول لبعض الحنابلة،[16] واختاره مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي[17].

ففي بدائع الصنائع: “وأما جوازه، فالقياس: ألا يجوز؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا؛ لإجماع الناس على ذلك”[18].

 

واستدلوا من السنة، والإجماع العملي، والمعقول:

(1) استدلوا من السنة بدليلين:

الدليل الأول: ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب، وجعل فصّه في بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فرقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: “إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه”، فنبذه، فنبذ الناس.[19]

 

ووجه الدلالة: في قول الراوي: “اصطنع خاتمًا من ذهب”؛ أي أمر أن يُصنع له، وفعله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز عقد الاستصناع.[20]

 

ونوقش هذا الاستدلال: باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الثمن معجلاً، فكان عقد سلم، أو دفع له العين التي يصنع منها الخاتم؛ فكان عقد إجارة، وقيام الاحتمال في مقام الأفعال، يكسو الدليل ثوب الإجمال، ولا يصح به الاستدلال.[21]

 

وأجيب: أنها احتمالات بعيدة، لم تدل عليها ألفاظ الحديث، والأصل عدمها.

 

الدليل الثاني: ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة – امرأة قد سمّاها سهل – أن مري غلامكِ النجار، يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن، إذا كلمت الناس، فأمرته يعملها من طرفاء الغابة[22].[23]

 

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع المنبر من المرأة، وهي التي أتت بالعين المراد تصنيعها؛ فدلّ هذا الفعل على جواز عقد الاستصناع .

 

ونوقش هذا الاستدلال: بأن الرواية الأخرى لهذا الحديث تفسّره بخلاف ذلك، ففي صحيح البخاري أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا ؟ قال: “إن شئتِ”، فعملت المنبر،[24] وهذا يدل على أن المرأة هي التي تبرعت بصنع المنبر، وأنّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها إنما جاء بعد ذلك لما أبطأت فيه، مع علمه عليه الصلاة والسلام برضاها بالتبرع به، فليس في الحديث دلالة على مشروعية عقد الاستصناع.[25]

 

(2) واستدلوا بالإجماع العملي: إذ ما زال الناس في كل عصر يتبايعون بعقد الاستصناع من غير نكير.[26]

 

(3) واستدلوا من المعقول بثلاثة أدلة:

الدليل الأول: أن الأصل في المعاملات الإباحة.[27]

 

والدليل الثاني: أن عقد الاستصناع تضمن عقدين مشروعين، الأول: عقد بيع على مبيع في الذمّة، والثاني: إجارة العامل للعمل في هذا المبيع، وكلا العقدين مشروع على انفراده، فجازا إذا جمُعا معًا في عقد الاستصناع.[28]

 

ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن عقد البيع الأول مع تأجيل العوضين غير جائز، كما سبق.

 

والدليل الثالث: وجود الحاجة؛ فكثير من الناس يحتاجون سلعاً بمواصفات خاصة، لا يجدونها في الأسواق؛ فيحتاجون استصناعها.[29]

 

ونوقش: بأن الحرج مرفوع عنهم؛ بجواز السلم في المصنوعات؛ بشرط أن يعجل المشتري الثمن.[30]

 

ويمكن أن يجاب: أن حاجة الناس قد لا تندفع بالسلم في كثير من الحالات، حيث إنهم قد يحتاجون إلى اشتراط أن يكون التصنيع من عمل العاقد نفسه، وهو ما لا يشرع في السلم.

 

القـول المختـار:

جواز عقد الاستصناع؛ للاعتبارات التالية:

دلالة حديث استصناع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة y لخواتيمهم، وهي دلالة قوية على مشروعية الاستصناع.

 

جريان عمل الناس عليه، وعدم اندفاع حاجتهم إلا به.

 

أن الأصل في المعاملات الإباحة.

 

ثم أن عقد الاستصناع من العقود المحققة لأهداف الاقتصاد الإسلامي؛ كالنهوض باقتصاد الأمّة، وتشغيل الأيدي العاملة، وإبقاء السيولة داخل البلد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، ونبذ التبعية للآخرين.[31]


[1] ينظر: المدونة، لمالك، (9/ 19)، مواهب الجليل، للحطاب، (4/ 539)، الشرح الكبير، للدردير، (3/ 217)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (3/ 217)، بلغة السالك، للصاوي، (3/ 180).

[2] ينظر: الأم، للشافعي، (3/ 130)، مختصر المزني، ص (92)، الحاوي، للماوردي، (5/ 406)، نهاية المطلب، للجويني، (6/ 62)، الشرح الكبير، للرافعي، (9/ 318)، روضة الطالبين، للنووي، (4/ 27-28)، أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، (2/ 137)، العباب، للمزجد، (2/ 798).

[3] ينظر: المغني، لابن قدامة، (4/ 215)، الفروع، لشمس الدين بن مفلح، (4/ 18)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 300)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 165).

[4] هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري، أبو الهذيل الحنفي، تفقه على أبي حنيفة، وجمع بين العلم والعبادة، كان من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي، توفي سنة 158هـ، مترجم له في وفيات الأعيان، لابن خلكان، (2/ 317-319)، الجواهر المضية، لابن أبي الوفاء القرشي، (1/ 243-244).

[5] ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 185)، الاختيار، للموصلي، (2/ 40)، مجمع الأنهر، لشيخي زاده، (3/ 149).

[9] أخرجه أحمد، (24/ 25)، برقم15311، وأبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، (3/ 283)، برقم 3503، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، (2/ 525)، برقم1232، والنسائي في كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، (7/ 334)، برقم4627، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن، (2/ 737)، برقم2187، من طريق يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام، رواها عنه أبو بشر جعفر بن إياس (ثقة)، وأيوب السختياني (ثقة ثبت)، وجاء التصريح بالسماع بين يوسف وحكيم في رواية همام بن يحيى (ثقة ربما وهم) عن يحيى بن أبي كثير عن يعلى ابن حكيم (ثقة) عن يوسف، لكن خالف همام هشامٌ الدستوائي (ثقة ثبت)، فلم يذكر التصريح بالسماع، بل أدخل بين يوسف وحكيم عبد الله بن عصمة، ورواية هشام أرجح من رواية همام، لكنها خولفت بالطريق الأولى، وهي الراجحة؛ لأن أبا بشر وأيوب أرجح من يعلى بن حكيم، وفي سند هذه الطريق الراجحة انقطاع، فيوسف بن ماهك لم يسمع من حكيم ابن حزام، كما ذكره الإمام أحمد، ينظر جامع التحصيل، للعلائي، ص(305)، لكن يشهد للحديث حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقد سبق، ص(193)، لذا صححه ابن دقيق العيد في الاقتراح، ص(99)، وابن الملقن في البدر المنير، (6/ 448).

[10] ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (3/ 217)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 300).

[11] ينظر: عقد الاستصناع لكاسب البدران، ص(81).

[12] ينظر: الإجماع، لابن المنذر، ص(132)، برقم 541، الإشراف على مذاهب العلماء، له، (6/ 44)، وقد ورد أن النبي r نهى عن بيع الكالئ بالكالئ – وهو بيـع الدين بالدين – في حـديث ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب البيوع، أبواب الشفعة، باب أجل بأجل، (8/ 90)، برقم14440، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيع الدين بالدين، (5/ 474)، برقم 10536، وفي سنده موسى بن عبيدة، ضعفه أحمد، ينظر: الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (8/ 152)، وتابعه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك، ينظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر، (1/ 158-161)، وقد ضعفه ابن المنذر في الإشراف، (6/ 44)، ولكن تلقت الأمة معناه بالقبول، يراجع: تكملة المجموع، للسبكي، (10/ 108)، العلل المتناهية، لابن الجوزي، (2/ 112).

[13] ينظر: تكملة المجموع، للسبكي، (10/ 107)، مجموع فتاوى ابن تيمية، (20/ 512)، (29/ 472)، ويراجع: بيع الكالئ بالكالئ، لنزيه حماد، ص(23).

[14] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (6/ 10).

[15] ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء، للجصاص، (3/ 36)، المبسوط، للسرخسي، (12/ 138)، تحفة الفقهاء، للسمرقندي، (2/ 362)، بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 2)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 123)، العناية، للبابرتي، (9/ 458)، البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 185)، حاشية ابن عابدين، (5/ 223).

[16] ينظر: الإنصاف، للمرداوي، (4/ 300).

[17] ينظر: القرار رقم، (67/ 3/ 7)، ضمن مجلة المجمع، الدورة السابعة، (2/ 777-778).

[19] أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه، (7/ 203)، واللفظ له، برقم5876، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب طرح خاتم الذهب، (3/ 1655)، برقم 2091.

[20] ينظر: المبسوط، السرخسي، (12/ 139).

[21] ينظر: شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (3/ 171).

[22] الطرفاء هو شجر الأثل، وقيل: غير ذلك، والغابة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف متكاثف؛ لأنها تُغيب ما فيها، ينظر: النهاية، لابن الأثير، (3/ 399)، شرح النووي لمسلم، (5/ 35).

[23] أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب النجار، (3/ 80)، برقم2094، واللفظ له، ومسلم في كتاب المسجد، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، (1/ 368)، برقم544.

[24] في كتاب البيوع، باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، (1/ 122)، برقم449.

[25] ينظر: فتح الباري، لابن حجر، (1/ 544).

[26] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (12/ 138)، بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 2-3).

[27] سبق عزوها، ص(258).

[28] ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 3)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 300).

[29] ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 3)، عقد الاستصناع، لمصطفى الزرقا، ص(18).

[30] ينظر: مواهب الجليل، للحطاب، (4/ 540).

[31] ينظر: آلية تطبيق عقد الاستصناع في المصارف الإسلامية، لمصطفى عبد السلام، ص(13-14).

تمت قراءة هذا المقال بالفعل25 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | عظات للملوك

Next Post

رييل ستوري | ضوابط ترجمة معاني القرآن الكريم للغة أخرى (1)

Related Posts