مقاصد الانتقال ومطالب المزج بين اللهجات في سياق نَظْمِ القرآن الكريم

هذا الموضوع جانب من جوانب مجال اللسانيات الثَّرِيَّة التي تجمع بين علم اللهجات والقراءات القرآنية، إنه يقتضي من القارئ الاعتناءَ باللهجات العربية القديمة قبل الإسلام، والاختلافات في القراءات القرآنية.

نزل القرآن الكريم في الحجاز؛ إحدى المناطق الخمسة الكبرى؛ نجد، وعروض، ويمن، وتهامة، والحجاز، التي تقع في شبه الجزيرة العربية، والجزيرة العربية تضم عددًا من القبائل التي اختلفت لغاتها (لهجاتها) في النطق (الأصوات)، والمعاني (الدلالات)، والمباني المفردة (المعجم والصرف)، والمباني المركبة (النحو والتركيب).

ومن تلك القبائل قريش – تغليبًا سمَّيناها قبيلة – وتميم، وأسد، وهُذيل، وطيئ، وغيرها، هذه القبائل العربية كانت تنطق اللسان العربي الفريد، ولكنها فيما بينها ينماز بعضها عن بعض في لغتها (لهجتها)؛ حيث إن كل لهجة تتميز ببعض الأصوات وأدائها، والصيغ الاسمية والفعلية واشتقاقاتها، وقواعد النحو الخاصة بها، والثروة اللفظية والمعنوية من الاشتراك، والترادف، والتضاد، وغيرها.

والقراءات القرآنية في الواقع عبارة عن تلك اللهجات العربية المعروفة في شبه الجزيرة العربية؛ فثمة قراءة تقوم بتخفيف الهمز وتسهيلها، وكان التسهيل معروفًا بين القبائل التي تسكن في منطقة الحجاز، بينما قراءة أخرى تقوم بدعم تحقيق الهمز، وكان هذا معروفًا بين القبائل التي تسكن في منطقة نجد، وهكذا نجد التنوع في القراءات القرآنية من أجل اختلاف اللهجات العربية.

وكانت هذه اللهجات سائدة في عصر نزول الوحي، وهي لا تؤثر في اختلاف المعنى والدلالة للآيات القرآنية، وهذه القراءات السبعة أو العشرة، التي نُقلت إلينا عبر سلسلة إسناد دقيقة ومتواترة، تعكس بشكل مباشر اختلاف اللهجات العربية، ويمكن القول: إن القراءات القرآنية وُضعت لتشمل في إطارها تنوع اللهجات التي كانت سائدة آنذاك، فعندما يُقال: إن القرآن نزل على “سبعة أحرف”، فهذا يعني أنه أخذ في الاعتبار التباين اللهجي، ما يسَّرَ على العرب تلقِّيه واستيعابه بلهجاتهم المختلفة.

معرفة اللهجات العربية تفيد في فهم النص القرآني على أساس أن ما ورد فيه من الاختلافات ليست إلا نتيجة اختلاف اللهجات العربية؛ ولذلك نجد أن هذه الاختلافات اللهجية طالما لا تؤثر في تغيير المعنى، إلا أن هناك من مواطن يختلف فيها المعنى من موقع لآخر، وتختلف الدلالة من رتبة لأُخراها، وعلى كل حال، فإن هذه الاختلافات اليسيرة في مباني النَّظْمِ تُعنى بتوسعة في كيفية النطق بما يتوافق مع ما ألِفَهُ العرب من لهجات من ناحية، وكذلك تشير إلى جوانب أبعاد إعجاز النظم من ناحية أخرى؛ وذلك لأن التنوع اللغوي في القرآن الكريم يؤكد بقوة الربط اللفظي والدلالي بين الوحدة الصغرى والكبرى للنظم، وينتهي هذا إلى الإعجاز الذي لا يستطيع أحد أن يتحداه، على الرغم من مرونة نص القرآن الكريم في استيعاب لغته من شتى القبائل والمجتمعات.

وهذا الموضوع مجال بحث خصب، وغنيٌّ، ومتشعب، يمكن أن يتناول العديد من الجوانب اللغوية والتاريخية في مساق اللهجات والقرآن الكريم؛ ومن ثَمَّ فقد يكون كل جانب منها نقطة انطلاق لدراسة علاقة اللهجات بالقرآن الكريم من منظور التناوب بين اللهجات العربية؛ لأن ظاهرة الانتقال بين اللهجات عند الناطقين بها، أو ظاهرة المزج بين خصائص اللهجات المختلفة في كلامهم أمران مرتبطان بالحالات والعوامل الاجتماعية، أو الثقافية، أو النفسية، التي تؤثر في هذا السلوك.

فالباحث الدقيق قد يقوم بتحليل هذه العناصر بجملتها، ويحاول قدر المستطاع أن يصل إلى الدلالات الكامنة (الاجتماعية والثقافية والنفسية وهلم جرًّا) وراء حجب الاختيار الإلهي من اللهجات في شتى مواطن النظم ومحالِّه، ومواقفه.

فالأمر ليس بيسير – كما يبدو – أو هو مقصور على تناول اللهجات، وتحديد مواطنها في القرآن الكريم، بل إنه في الواقع يتجاوز هذا الحد اليسير، فيعطي طابعًا فريدًا للبحث والدراسة في هذا المجال من خلال محاولة الوصول إلى أسباب (حكم) اختيار لغة مِنْطَقة، أو لهجة، وجعلها في قالب النظم الموحَّد؛ لأن هذا الاختيار لم يكن عفويًّا ولا عشوائيًّا، بل إنه كان محكومًا بمقاصد ومطالب ما لا يعلمها إلا الله وحده، ونحن إن وُفِّقنا أصبنا فيها، وإلا فلا.

هذا الموضوع يتطلب إجالة النظر وإعمال الفكر في تحديد معاني القرآن الكريم من هذا المنظور اللهجي الأصيل الفريد، وفي هذا الباب يمكن أن يُستعان بكتب التفسير، وكتب إعراب القرآن الكريم، وكتب غريب القرآن الكريم، وكتب مشكل القرآن الكريم، وكتب القراءات القرآنية (السبع أو العشر أساسًا)، وكتب اللهجات العربية ومجتمعاتها وبيئاتها.