dark

رييل ستوري | الخضر… دروس وعبر

اعلانات

الخَضِر… دروس وعِبَرٌ

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فحياة الرجل الصالح – أو النبي الصالح؛ كما ذهب إلى ذلك جمهرة من العلماء – الخَضِر، مليئة بالدروس والعبر، ننهَل من عبيرها في ليلة كل جمعة ويومها، ونحن نقرأ سورة الكهف في قصة سيدنا موسى مع الرجل الصالح، وهي من أربع قصص، انفردت بها هذه السورة دون غيرها من سور القرآن، وقد استفاضت شهرة هذه القصة؛ لورودها في هذه السورة المباركة، وكذلك من أقوال أئمة التفسير وهم ينطلقون من كتب السنة والسيرة، واللغة والبلاغة والفصاحة في هذه القصة العظيمة.

 

وقد وقفت على نصٍّ عزيز في السنة النبوية، يتكلم عن هذا الرجل والعبد الصالح بمعزل عن قصته مع سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام؛ فأحببتُ نشرها وأخذَ ما يُستنبَط منها من أحكام ودروس وعبر، بعد ذكر النص وتخريجه، والحكم عليه، وما استنبطه العلماء منه من أحكام فقهية، وتوجيهات نبوية، ثم أدلو بدَلْوِي في فهم النص مما لم يذكره العلماء الأجلاء؛ لوضوحه عندهم، أو لأخذهم المهم من أحكامه، أو لفَهمٍ علَّمَنِيه ربي وفتح عليَّ فيه، وأسأل الله تبارك وتعالى القبول والإخلاص والسداد، فأقول وبالله التوفيق ومنه العون والسداد:

قال الطحاوي:

حدثنا أبو أمية قال: حدثنا سليمان بن عبيدالله الأنصاري الرقي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: ((ألا أحدثكم عن الخَضِر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل، أبصره رجل مكاتَب، فقال: تصدَّق عليَّ بارك الله فيك، قال الخَضِر: آمنت بالله، ما يريد الله عز وجل من أمر يكُنْ، ما عندي شيء أُعْطِيكَهُ.

 

فقال المسكين: أسألك بوجه الله عز وجل لما تصدقت عليَّ، إني نظرت إلى سِيماءِ الخير في وجهك، ورجوتُ البركة عندك.

 

قال الخَضِر: آمنت بالله، ما عندي شيء أعطيكه، إلا أن تأخذني فتبيعني.

 

فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحقَّ أقول لك: لقد سألتني بأمر عظيم، أمَا إني ما أُخيِّبك بوجه ربي فبِعْني، فقدَّمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زمانًا لا يستعمله في شيء.

 

فقال الخَضِر: أمَا إنك إنما ابتعتني ابتغاء خيري، فأوصِني بعمل.

فقال: أكرَهُ أن أشُقَّ عليك، إنك شيخ كبير.

قال: ليس يشق عليَّ.

 

قال: فقُمْ فانقُل هذه الحجارة، وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل ليقضي حاجته، ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعته.

 

فقال له: أحسنت وأجملت، وأطقْتَ ما لم أرَك تُطيقه، ثم عَرَضَ للرجل سفرٌ، فقال: إني أحسبك أمينًا، فاخلُفني في أهلي خلافةً حسنةً.

 

قال: أوصِني بعمل، قال: إني أكره أن أشُقَّ عليك.

 

قال: ليس يشق عليَّ، قال: فاضرب من اللبن حتى أقدَمَ عليك، فمضى الرجل لسفره، فرجع الرجل وقد شيَّد بناءه، فقال الرجل: أسألك بوجه الله عز وجل، ما جنسك؟ وما أمرك؟

 

قال: سألتني بوجه الله عز وجل، والسؤال بوجه الله عز وجل أوقَعَني في العبودية، فقال: سأخبرك من أنا؟ أنا الخَضِر الذي سمعت به، سألني مسكين صدقةً فلم يكن عندي شيء أعطيه، سألني بوجه الله، فأمْكَنْتُه من رقبتي، فباعني، وأُخبرك أنه من سُئِلَ بوجه الله فردَّ سائله وهو يقدر، وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم، ولا دم ولا عظم يَتَقَعْقَعُ.

 

قال: آمنت بذلك، شققت عليك يا رسول الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أُخيِّرك فأخلي سبيلك؟

 

قال: أحب أن تخليَ سبيلي فأعبد الله عز وجل فخلَّى سبيله.

 

فقال الخَضِر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ونجاني منها))[1].

 

التخريج وبيان اختلاف الألفاظ:

أخرجه الطبراني من طريقه، فقال: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي، ثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي، ثنا بقية، ح وحدثنا الحسن بن علي المعمري، ثنا محمد بن علي بن ميمون الرقي، ثنا سليمان بن عبيدالله الحطاب، ثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((ألا أحدثكم عن الخَضِر؟… فقال الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم، فقال: لا بأس، أحسنت وأبقيت، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي…))[2]، وأخرجه أبو سعيد الأصبهاني الحنبلي النقاش في كتابه فنون العجائب[3]، وذكره عبدالحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى[4]، والمنذري في الترغيب والترهيب[5]، وابن كثير في قصص الأنبياء، والبداية والنهاية[6]، وابن عدي في الكامل[7]، وأبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان[8]، وابن عساكر في تاريخ دمشق[9]، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب[10]، وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة[11]، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور[12].

 

الحكم على الحديث:

1- قال الهيثمي: “رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون، إلا أن فيه بقية بن الوليد، وهو مدلِّس، ولكنه ثقة، وقال في موضع آخر: رواه الطبراني ورجاله موثقون، إلا أن بقية مدلس”[13].

 

2- وقال المنذري: “رواه الطبراني في الكبير، وغير الطبراني، وحسَّن بعض مشايخنا إسناده، وفيه بُعْد، والله أعلم”[14].

 

3- وقال ابن كثير: “وهذا حديث رفعُهُ خطأ، والأشبه أن يكون موقوفًا، وفي رجاله من لا يُعرَف، فالله أعلم.

 

وقال: وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخَضِر)، من طريق عبدالوهاب بن الضحاك، وهو متروك، عن بقية”[15].

 

وقال في موضع آخر: “وهذا حديث رفعُهُ خطأ، والأشبه أن يكون موقوفًا وفي رجاله من لا يُعرَف، فالله أعلم، وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخَضِر)، من طريق عبدالوهاب بن الضحاك، وهو متروك عن بقية”[16].

 

وقال ابن عدي: “قال لنا ابن عمير: سألت بن عوف عن هذا الحديث، فقال: حديث موضوع منكر لا أصل له، في حديث محمد بن زياد، ومحمد ثقة حسن الحديث، حدَّث عنه الأجلَّاء؛ خالد بن معدان وجرير، وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فقال: حديث منكر، ومحمد بن زياد معروف لا يشبه حديثه.

 

قال ابن عدي: وهذا الحديث لا أعلم رواه عن بقية غير سليمان بن عبيدالله الرقي، وقد ادَّعاه عبدالوهاب بن الضحاك فرواه عن بقية، وعبدالوهاب لا اعتماد عليه”[17].

 

4- وقال ابن حجر: “سند هذا الحديث حَسَنٌ لولا عنعنة بقية، ولو ثبت لكان نصًّا أن الخَضِر نبيٌّ؛ لحكاية النبي صلى الله عليه وسلم وقول الرجل: (يا نبي الله)، وتقريره على ذلك”[18].

 

قلت: وفي رواية الطحاوي جاء التصريح بأنه: (رسول الله) بلفظ: ((… آمنت بذلك شققت عليك يا رسول الله))، ومن الجدير بالذكر في هذا الموضع أن العلَّامة عبدالله الصديق الغماري قد جمع الأدلة التي تثبت نبوة الخَضِر في كتابه: (سمير الصالحين)، فلينظر فإنه نفيس في بابه.

 

5- قال أبو بكر بن أبي عاصم: “هذا خبر ثابت من جهة النقل”[19].

 

الخلاصة في الحكم:

انتقد الحافظ ابن كثير وغيره رحمهم الله هذا الحديثَ بأمور؛ منها:

1- أن في طريقه عبدالوهاب الضحاك، وهو متروك.

 

والجواب: أن عبدالوهاب الضحاك ليس بالطريق المعول عليه في الاستدلال من طريق الطحاوي والطبراني كما علمت، فهو طريق آخر ذكره ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخَضِر)، فلا عبرة به هنا كما هو معلوم.

 

2- قولهم رحمهم الله: وفي رجاله من لا يُعرَف.

 

الجواب: رجاله معرفون وموثَّقون كما صرح بذلك الهيثمي وغيره، ومن لا يُعرَف فيه فهو من طريق أخرى غير حديث الباب وحديث الطبراني، والله أعلم بالصواب.

 

3- قولهم رحمهم الله: وهذا حديث رفعُهُ خطأ، والأشبه أن يكون موقوفًا.

 

الجواب: على فرض صحة ذلك، فالوقف لا يضره؛ لأنه يأخذ حكم المرفوع، فهو أمر لا يدخله الرأي والاجتهاد.

 

4- قال الهيثمي بقوله: “رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون، إلا أن فيه بقية بن الوليد، وهو مدلس، ولكنه ثقة، وقال في موضع آخر: رواه الطبراني ورجاله موثقون، إلا أن بقية مدلس”، وقال ابن حجر بقوله: “سند هذا الحديث حسن لولا عنعنة بقية”، فكلاهما انتقد هذا السند لعنعنة بقية فيه، وهو مدلس كما لا يخفى على من اطَّلع على حاله، وأقوال العلماء فيه.

 

والجواب: أن تدليس بقية وعنعنته مأمونة هنا؛ لتصريحه بالسماع في حديث الباب الذي أخرجه الطحاوي من طريقه فقال: “حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن زياد الألهاني”، والظاهر أنهما رحمهما الله لم يقفا على هذه الطريق، فكلاهما حَكَمَا على طريق الطبراني بمفرده.

 

وعليه، فالحديث حسن، والله أعلم بالصواب.

 

ما يُؤخَذ من النص:

1- قال الطحاوي: “ولما كان من شريعة من قبل هذه الأمة من الأمم إرقاقُ أنفسهم، وتمليكها غيرهم، وكان ذلك مما يكون منهم تقربًا إلى ربهم عز وجل، كان استرقاقهم بالديون التي عليهم التي قد يكون أخذهم إياها من أموال غيرهم طاعةً، فقد يكون معصيةً أخرى أن يكون مستعملًا فيهم، ومحكومًا به عليهم، فكان ذلك كذلك حتى دخل الإسلام فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان من شريعته اتباع شرائع النبيين الذين كانوا قبله صلوات الله عليهم، حتى يُحدِثَ الله عز وجل في شريعته ما نسخ ذلك؛ كما قال الله عز وجل في كتابه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، فلم يزل كذلك حتى أنزل الله عز وجل عليه ما نسخ به ذلك الحكم؛ وهو قوله عز وجل في آية الربا: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]، فعاد الحكم إلى أخذ الديون لمن هي له ممن هي عليه؛ إذ كانت موجودةً عنده، وإمهاله بها إذ كانت معدومةً عنده، حتى يوجد عنده فيُؤخذ منه، فيُدفع قضاءً عنه إلى من هي له عليه، فكان في ذلك نسخ إرقاق الأحرار أنفسهم، وتمليكهم إياها سواهم، حتى يعودوا بذلك مملوكين لمن ملكوها إياه، وبيَّن الله عز وجل ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواعد من فعله وعيدًا شديدًا”[20].

 

2- وقال النقاش: “فيه ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث؛ لقوله عليه الصلاة السلام: ((ألا أحدثكم عن الخَضِر؟))”.

 

3- ومنها: أن لكل غير ذي الحاجة أن يدخل السوق.

 

4- ومنها: أن المكاتبة قديمة صحيحة.

 

5- ومنها: أن للمكاتب ولمن أراد أن يقول: تصدق عليَّ بارك الله فيك.

 

6- ومنها: أن ردَّ المرء سائله، يقول له: ما عندي ما أعطيك.

 

7- ومنها: أن السائل إذا مُنِع مرةً له أن يعاوده.

 

8- ومنها: أن الحرَّ إذا أمكن رجلًا من بيعه، وأذِن له فيه، فبيعه جائز.

 

9- ومنها: استثبات الإنسان في الشيء الذي يُؤمَر به؛ لقول المسكين للخضر: ((أيستقيم ذلك؟)).

 

10- ومنها: أن ذكر الدراهم جائزة بين الناس دون ذكر الوزن.

 

11- ومنها: أن الخَضِر كان نبيًّا مرسلًا؛ لقوله: ((يا رسول الله))، وفي إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول القائل: ((يا رسول الله)) دليل على صحة رسالته[21].

 

قلت: وفي رواية الطبراني وغيره بلفظ: ((… شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم)).

 

12- وقال ابن حجر الهيتمي: “تنبيه: عد كل من هذين كبيرةً؛ وهو صريح اللعن عليهما في الحديث الصحيح، وأن من سُئِل بالله ولا يعطي شرُّ الناس، لكن لم يأخذ بذلك أئمتنا، فجعلوا كلًّا من الأمرين مكروهًا، ولم يقولوا بالحرمة فضلًا عن الكبيرة.

 

ويمكن حمل الحديث في المنع على ما إذا كان لمضطر، وتكون حكمة التنصيص عليه أن منعه مع اضطراره، وسؤاله بالله أقبح وأفظع، وحمله في السؤال على ما إذا ألحَّ وكرر السؤال بوجه الله حتى أضجر المسؤول وأضره، وحينئذٍ فاللعن على هذين، وكون كل منهما كبيرةً ظاهر، ولا يمتنع من ذلك أصحابنا، وكلامهم إنما هو في مجرد السؤال بوجه الله تعالى، وفي منع السائل بذلك لا عن اضطراره، وبهذا اتضح الجمع بين كلام أئمتنا وتلك الأحاديث التي قدمناها، ثم رأيت في كلام الحَلِيمي في منهاجه ما يصرح بما ذكرته.

 

فإنه قال: ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرةً بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشةً بانضمام قرينة إليها إلا الكفر بالله تعالى، فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة، وأما ما عداه فالأمر فيه على ما ذكرت، ثم قال: ومنع الزكاة كبيرة، وردُّ السائل صغيرة، فإن أجمع على منعه، أو كان المنع من واحد، إلا أنه زاد على المنع الانتهار والإغلاظ فذاك كبيرة، وهكذا إن رأى محتاجٌ رجلًا موسعًا عليه على طعام، فتاقت إليه نفسه، وسأله منه، فرده فذلك كبيرة؛ [انتهى]… واعترض عليه الأذرعي بأن ما قاله من أن ردَّ السائل صغيرة، وأن رد المحتاج – الذي تاقت نفسه وسأل من الموسِر فردَّه -كبيرة مشكلان إلا أن يؤول، وكلامه بعيد من التأويل؛ [انتهى].

 

قال الجلال البُلقيني جوابًا عن ذلك، قلت: يُحمل كلامه الثاني على المضطر، والأول على سائل لمن لزمته الزكاة في بلد فقراؤه محصورون؛ [انتهى]… فما ذكره الجلال البلقيني تأويلًا لكلام الحليمي صريحٌ في تأييد ما ذكرته، نعم إطلاق الجلال بأن ما ذُكِرَ آخرًا صغيرة فيه نظر ظاهر، فإنهم إذا انحصروا في ثلاثة فأقل من صنف، ملكوا الزكاة ملكًا تامًّا مستقرًّا، فمنع أحدهم حينئذٍ كبيرة بلا شك، فإن انحصروا حصرًا يقتضي وجوب استيعابهم على المالك بأن سهَّل ضبطهم عليه عادةً، ووفى المال بهم، اتجه أن الرد حينئذٍ صغيرة؛ لأن التعميم واجب عليه، ولكنهم لا يملكون، فكان الرد صغيرةً لا كبيرةً، وعلى هذه الحالة يُحمَل كلام الجلال”[22].

 

13- وقال محيي الدين درويش: “أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، عن نبذة طريفة عن الخَضِر، ومدى إيمانه العميق بالله ورغبته في ثوابه، ورهبته من عقابه؛ لتكون بمثابة معالم الصبح لكل مؤمن بما يعتقده حقًّا وصوابًا، لا يبالي ما يتكبده في سبيل ترسيخ ما يعتقده في النفوس، كما انطوت النبذة على ميله إلى إجابة السائل الفقير المحتاج، ولو ببيع نفسه، ثم أعطى الخَضِر نصيحة غالية تصلح للاحتذاء في مختلف ظروف الزمان والمكان، فحذَّر المسؤولين من البخل خشية الوقوف يوم الحساب… وانظر بعد ذلك إلى أسمى مطلب يجنح لإليه العقلاء: ((تخلي سبيلي فأعبد ربي))، وهذا بمثابة مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لكل إنسان؛ ليجود بماله في مشروعات الخير، وليثق بالله الرزاق المنفق المخلف، وليتحلى بشيم السخاء والعطاء”[23].

 

14- وقال الراجحي: “وهذا الخبر إن صح، فهو محمول على أن هذا جائز في شريعة الخَضِر، أما في شريعة الإسلام فلا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، لأنه حرٌّ؛ جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله، وذكر منهم: من باع حرًّا فأكل ثمنه))”[24].

 

15- قلت: وفيه أدب الصحابة رضي الله عنهم بالقبول والإنصات؛ لقولهم: ((قالوا: بلى يا رسول الله)).

 

16- فيه: جواز التحديث عن الأمم السابقة للاتعاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أحدثكم عن الخَضِر؟)).

 

17- فيه: أن الأولياء فضلًا عن الأنبياء يتجولون في الأسواق، ويخالطون الناس، ويشاركونهم في همومهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل)).

 

18- فيه: أن المسكين يطلق على من عنده قوت يومه، ولكنه بحاجة للمال من أجل مصلحة أعظم؛ ألا وهي الحرية، وقد فرق الفقهاء بين الفقير والمسكين في كتبهم.

 

19- فيه: تعليم السائل أمور العقيدة؛ لقول الخَضِر عليه السلام: ((آمنت بالله، ما يريد الله عز وجل من أمر يكن)).

 

20- فيه: جواز الاعتذار من السائل لعدم وجود شيء عند المسؤول؛ لقول الخَضِر عليه السلام: ((ما عندي شيء أعطيكه)).

 

21- وفيه: أن الطاعات تنعكس على بهاء الوجه؛ فقال المسكين للخضر عليه السلام: ((إني نظرت إلى سِيماء الخير في وجهك، ورجوت البركة عندك)).

 

22- فيه: رجاء البركة من الصالحين؛ لقول المسكين: ((ورجوت البركة عندك)).

 

23- فيه: فضل الصدقة على المساكين، فمن أجل ذلك باع الخَضِر عليه السلام نفسه لسد أمر المسكين المكاتب.

 

24- فيه: استحباب التطوع بالعمل ورعًا وإن لم يطلب منه مالكه ذلك؛ لقول الخَضِر عليه السلام لمن ملكه: ((… أما إنك إنما ابتعتني ابتغاء خيري، فأوصِني بعمل)).

 

25- فيه: الشفقة على المملوك الكبير؛ لقول المالك للخضر: ((أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير)).

 

26- فيه: أن حال الخَضِر عليه السلام شيخ كبير؛ لقول المالك: ((أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير)).

 

27- فيه: الأمر الخارق للعادة بالنسبة لقوى الخَضِر عليه السلام بقوله: ((وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل ليقضي حاجته، ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعته))، وهذا ليس ببعيد عن الحديث القدسي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته))[25].

 

28- فيه: جواز التعريف بالنفس، وبيان المكانة إن خَفِيَت على الناس؛ لقول الخَضِر عليه السلام: ((أنا الخَضِر الذي سمعت به)).

 

29- فيه: أن الخَضِر عليه السلام كان معروفًا بالخبر وليس بالوجه لقوله: ((أنا الخَضِر الذي سمعت به)).

 

30- فيه: جواز الاستعلام عن خرق العادة؛ لقول المالك للخضر: ((أسألك بوجه الله عز وجل ما جنسك؟ وما أمرك؟)).

 

31- فيه: أن الخَضِر عليه السلام لم يكن معروفًا عند مالكه فقال له: ((أنا الخَضِر الذي سمعت به)).

 

32- فيه: الشفقة على العامل من رب العمل لكِبَرِ سنِّه: ((أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير)).

 

33- فيه: استحباب مدح صاحب العمل للعامل لقوله: ((أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه)).

 

34- فيه: التعذر من الصالحين لعدم معرفة حقهم ومنزلتهم لقول المالك: ((آمنت بذلك شققت عليك يا رسول الله)).

 

35- فيه: جواز تولية الخادم على مال سيده بأمره؛ لقول المالك للخضر: ((يا رسول الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أخيرك فأخلي سبيلك؟)).

 

36- فيه: أن المالك قد استوثق من الخَضِر عليه السلام من غير أن يعرفه، فأقامه بدلًا عنه في حال سفره؛ لقول المالك للخضر عليه السلام: ((إني أحسبك أمينًا فاخلفني في أهلي خلافةً حسنةً)).

 

37- فيه: عقوبة رد السائل بقوله: ((من سُئِلَ بوجه الله فردَّ سائله وهو يقدر، وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم، ولا دم ولا عظم يتقعقع)).

 

38- فيه: استحباب بيان العذر الذي من أجله كلف المالك الخَضِر بالعمل؛ لأنه لم يعلم أنه نبي بقوله: ((… شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم)).

 

39- فيه: التماس العذر والمسامحة للغير إن لم يكن عالمًا بمنزلة من يخاطب؛ لقول الخَضِر عليه السلام: ((لا بأس، أحسنت وأبقيت)).

 

40- فيه جواز أن يفتدي الرجل غيره من الأنبياء بأبيه وأمه؛ لقول المالك للخضر عليه السلام: ((فقال الرجل: بأبي أنت وأمي))، وهذا ما اشتهر على لسان الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم.

 

41- فيه: جواز التخيير في العطية وبين الحرية؛ لقول المالك: ((يا رسول الله، احكُمْ في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أخيرك فأخلي سبيلك؟)).

 

42- فيه طلب الحرية ليتفرغ لعبادة الله: ()أحب أن تخلي سبيلي فأعبد الله عز وجل، فخلَّى سبيله)).

 

43- فيه فضل العتق لوجه الله: ((أحب أن تخلي سبيلي)).

 

44- فيه تقديم خدمة السيد على عبادة الرب في النوافل والتفكر؛ لأنه علَّل طلب الحرية بذلك بقوله: ()أحب أن تخلي سبيلي فأعبد الله عز وجل)).

 

45- فيه: فضل الحمد على كل حال في العبودية والحرية والتسليم لأمر الله تعالى؛ لقول الخَضِر عليه السلام: ((الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ونجاني منها)).

 

46- فيه: تنبيه للأمة أن الخَضِر عليه السلام قادر على خرق العادة بأمر الله كرامة له، ولكنه لم يستعمل ذلك لجلب المال والتكسب، والشهرة والسمعة، وإنما استعملها في العمل الذي كُلِّف به، وما كُلِّف به لا يطيقه بشر عادي إلا بأمر خارق، من أجل هذا كان محل استغراب، وعجب المالك حتى سأله بالله بقوله: ((أسألك بوجه الله عز وجل: ما جنسك؟ وما أمرك؟)).

 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] شرح مشكل الآثار (5/ 135) (1877).

[2] المعجم الكبير للطبراني (8/ 113) (7530)، ومسند الشاميين للطبراني: (2/ 13) (832).

[3] فنون العجائب (ص: 118)، (94).

[4] (4/ 351)، بَاب ذكر الخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام.

[6] (2/ 225)، ط إحياء التراث (1/ 385).

[13] ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (3/ 103)، (8/ 213).

[14] ينظر: الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 342).

[15] قصص الأنبياء (2/ 225).

[16] البداية والنهاية ط إحياء التراث (1/ 385).

[17] الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 267).

[18] الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 255).

[19] فنون العجائب (ص: 118)، (94).

[20] شرح مشكل الآثار (5/ 135) (1877).

[21] ينظر: فنون العجائب لأبي سعيد النقاش، أبي سعيد محمد بن علي بن عمر بن مهدي الأصبهاني الحنبلي النقاش (المتوفى: 414هـ) (ص: 119).

[22] الزواجر عن اقتراف الكبائر: (1/ 317-318).

[23] إعراب القرآن وبيانه (5/ 635).

[24] شرح تفسير ابن كثير – الراجحي (61/ 10، بترقيم الشاملة آليًّا).

[25] صحيح البخاري (8/ 105) (6502).



تمت قراءة هذا المقال بالفعل184 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | تفسير سورة الأنعام الآيات (100: 102)

Next Post

رييل ستوري | تقديرات أكدت وفاته.. ماذا كان يفعل مجد كم ألماز في البقاع اللبناني؟

Related Posts

رييل ستوري | أركان الحج

أَرْكَانُ الْحَجِّ   قَالَ الْمَصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [وَأَرْكَانُ الْحَجِّ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ. وَوَاجِبَاتُهُ: الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ…
Read More