dark

رييل ستوري | وقفات ودروس من سورة البقرة (12)

اعلانات

وقفات ودروس من سورة البقرة (12)

وقفات مع قلب السورة -6-

تابع معالم في سياق السورة

أحكام الطلاق

 

أحكام الطلاق:

لم تُذكَر أحكام الطلاق في سورة من القرآن الكريم كما ذُكرت في سورة البقرة من حيث الشمول والتفصيل.

تبدأ آيات الطلاق مع الآية 226، وتنتهي مع الآية 241، يتخللها أحكام الرَّضاع، وعِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها، وصلاة الخوف، في ترابط وتنسيق معجز، سبحان منزل الكتاب!

وسنورد بَسْطَ الأحكام من تفسيري القرطبي، وابن كثير.

 

1- ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227].

 

عن سعيد بن المسيب في قوله: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾: يحلفون، والتربُّص: النظر والتوقُّف.

قال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألَّا يَطَأَ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلَف على أربعة فما دونها لا يكون مُوليًا، وكانت عندهم يمينًا محضًا، لو وَطِئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأَيْمانِ؛ هذا قول مالك والشافعي، وأحمد وأبي ثور.

 

واحتجَّ مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمُولي أربعةَ أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجَّل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل.

 

واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب؛ فقال ابن عباس: لا إيلاء إلا بغضب، ورُوِيَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي، والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشادَّة، وحرجة ومناكدة، ألَّا يجامعها في فَرْجِها إضرارًا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاحُ ولدٍ أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب، فليس بإيلاء.

 

﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 227] العزيمة: تتميم العقد على الشيء.

قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: للذين يُؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم، وتقديرها عندهم: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فيها فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها، فإن الله سميع عليم.

 

2- ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228].

 

﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال القرطبي في تفسيره: لما ذكر الله تعالى الإيلاء، وأن الطلاق قد يقع فيه، بيَّن تعالى حكم المرأة بعد التطليق؛ ورد في كتاب أبي داود والنسائي، عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته، فهو أحقُّ بها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك وقال: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة: 229]؛ الآية، والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلَّقة قبل البناء بآية الأحزاب: ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ [الأحزاب: 49] على ما يأتي، وكذلك الحامل بقوله: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، والمقصود من الأقراء: الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة.

 

﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228] فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: من الحيض؛ قاله عكرمة والزهري والنخعي، وقيل: الحمل؛ قاله عمر وابن عباس، وقال مجاهد: الحيض والحمل معًا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العِدَّة على الحيض والأطهار، ولا اطلاع إلا من جهة النساء، جعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء العِدَّة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك؛ وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228].

 

ومعنى النهي عن الكتمان: النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حِضْتُ، وهي لم تَحِضْ، ذهبت بحقِّه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحِضْ، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألَّا ترتجع، حتى تنقضي العِدَّة، ويقطع الشرع حقَّه، وكذلك الحامل تكتم الحمل؛ لتقطع حقه من الارتجاع؛ قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحملَ؛ ليُلحِقْنَ الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية.

 

﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العِدَّة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العِدَّة على حديث معقل، وإذا كان هذا، فيكون في الآية دليلٌ على تخصيص ما شمله العموم في المسميات؛ لأن قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228] عامٌّ في المطلقات ثلاثًا، وفيما دونها لا خلاف فيه، ثم قوله: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ ﴾ [البقرة: 228] حكمٌ خاصٌّ فيمن كان طلاقها دون الثلاث، وأجمع العلماء على أن الحُرَّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولًا بها تطليقةً أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقُض عِدَّتَها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلِّق حتى انقضت عدتها، فهي أحقُّ بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مُستأنَف بوليٍّ وإشهاد، ليس على سُنَّة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء.

 

الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار، وتطويل العِدَّة، والقطع بها عن الخلاص من رِبْقَةِ النكاح، فمُحرَّم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]، ثم من فَعَلَ ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهيَ وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد، طلقنا عليه؛ قوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].

 

﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزيَّن لامرأتي كما تتزيَّن لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها عليَّ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: زينة من غير مأثم، وعنه أيضًا: أي: لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن، وقيل: إن لهن على أزواجهن تَرْكَ مضارتهن، كما كان ذلك عليهن لأزواجهن؛ قاله الطبري، وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتَّقِينَ الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب، والآية تعُمُّ جميع ذلك من حقوق الزوجية؛ [انتهى القرطبي].

 

﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال البغوي في تفسيره: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقال قتادة: بالجهاد، وقيل: بالعقل، وقيل: بالشهادة، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدِّيَة، وقيل: بالطلاق؛ لأن الطلاق بيد الرجال، وقيل: بالرجعة، وقال سفيان وزيد بن أسلم: بالإمارة؛ [انتهى].

 

وقال القرطبي: وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه، ولا تحج إلا معه، وقيل: الدرجة الصَّداق؛ قاله الشعبي، وقيل: جواز الأدب، وعلى الجملة فـ﴿ دَرَجَةٌ ﴾ تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حقَّ الزوج عليها أوجب من حقها عليه؛ ولهذا قال عليه السلام: ((ولو أمرت أحدًا بالسجود لغير الله، لَأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها))، وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حضِّ الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلُق؛ أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه؛ قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارٌّ؛ [انتهى].

 

﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ [البقرة: 228] أي: منيع السلطان لا معترض عليه، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228] أي: عالِم مُصيب فيما يفعل.

 

3- ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].

 

قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة: 229]؛ قال القرطبي: ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عددٌ، وكانت عندهم العِدَّة معلومة مقدَّرة، وكان هذا في أول الإسلام بُرهة، يطلِّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحِلُّ من طلاقه، راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آويك ولا أدَعك تحِلِّين، قالت: وكيف؟ قال: أُطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عِدَّتك، راجعتك، فشَكَت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ بيانًا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهرٍ ووليٍّ، ونسخ ما كانوا عليه.

 

وقال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسُنَّة الطلاق؛ أي من طلَّق اثنتين، فلْيَتَّقِ الله في الثالثة، فإما تَرَكَها غير مظلومة شيئًا من حقها، وإما أمسكها مُحسنًا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين.

 

﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [البقرة: 229] ابتداء، والخبر أمْثَلُ أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف؛ أي: فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يُعرَف أنه الحق، ويجوز في غير القرآن: فإمساكًا على المصدر، ومعنى ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي: لا يظلمها شيئًا من حقها، ولا يتعدى في قول، والإمساك: خلاف الإطلاق، والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض، وسرح الماشية: أرسلها، والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتم العِدَّة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيُسرِّحها؛ هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما.

 

﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، والآية خطاب للأزواج، وخصَّ بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم؛ لأن العُرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صَداقًا وجهازًا، فلذلك خُصَّ بالذكر.

 

﴿ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 229]، حرَّم الله تعالى في هذه الآية ألَّا يأخذ إلا بعد الخوف ألَّا يقيما حدود الله، وأكَّد التحريم بالوعيد لمن تعدَّى الحدَّ، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألَّا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهةٍ يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ، والخطاب للزوجين.

 

روى البخاريُّ من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ((أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خُلُقٍ ولا دين، ولكن لا أطيقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترُدِّين عليه حديقته؟ قالت: نعم))، وأخرجه ابن ماجه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ((أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أعِيبُ على ثابتٍ في دين ولا خُلُق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد))، فيُقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشدَّ الحب، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام.

 

واختلف العلماء في الخلع، هل هو طلاق أو فسخ؟ فرُوِيَ عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين: هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه، ومن جعل الخلع طلاقًا، قال: لم يَجُز أن يرتجعها حتى تنكح زوجًا غيره؛ لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والكلام للقرطبي.

 

عدة الْمُخْتَلِعة: عن ابن عمر قال: عِدَّة المختلعة عدة المطلقة، قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا، قلت (والكلام للقرطبي): وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق، والثوري وأهل الكوفة، قال الترمذي: وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

 

قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229] لما بيَّن تعالى أحكام النكاح والفراق، قال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 229] التي أمرتُ بامتثالها، كما بيَّن تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187]، فقسم الحدود قسمين؛ منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]؛ [انتهى، القرطبي].

 

4- ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230].

 

فإذا طلق الرجل امرأته طلقةً ثالثةً بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره؛ أي: حتى يَطَأَها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وَطِئها واطِئٌ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج، لم تحل للأول.

 

وقد روى أحمد والنسائي عن ابن عمر قال: ((سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا، فيتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها، قبل أن يدخل بها: هل تحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق العسيلة))، حديث آخر: قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن رجل كانت تحته امرأة، فطلَّقها ثلاثًا، فتزوجت بعده رجلًا فطلَّقها قبل أن يدخل بها: أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها، وذاقت من عسيلته)).

 

التَّيس المستعار: فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلِّل الذي وردت الأحاديث بذمِّه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد، بطل النكاح عند جمهور الأئمة؛ قال الإمام أحمد عن عبدالله قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومُوكله))؛ [رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من غير وجه، عن سفيان، وهو الثوري، عن أبي قيس واسمه عبدالرحمن بن ثروان الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح].

 

﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 230]؛ أي: شرائعه وأحكامه ﴿ يُبَيِّنُهَا ﴾ [البقرة: 230]؛ أي: يوضحها، ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]؛ [تفسير ابن كثير].

 

5- ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231].

 

يقول ابن كثير: هذا أمرٌ من الله عز وجل للرجال إذا طلَّق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعة، أن يُحسن في أمرها إذا انْقَضَتْ عِدَّتُها، ولم يبقَ منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها؛ أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف؛ وهو أن يُشهِد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرِّحها؛ أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويُخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح.

 

﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]؛ قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يُطلِّق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العِدَّة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلِّقها فتعتدُّ، فإذا شارفت على انقضاء العِدَّة، طلَّق لتطول عليها العِدَّة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعَّدهم عليه؛ فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: بمخالفته أمر الله تعالى؛ عن عبادة بن الصامت، في قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة: 231] قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنتُ لاعبًا، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة: 231]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح)).

 

﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: في إرساله الرسولَ بالهدى والبينات إليكم، ﴿ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: السُّنَّة، ﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: يأمركم وينهاكم، ويتوعدكم على ارتكاب المحارم، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 231] أي: فيما تأتون وفيما تذرون، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك.

 

6- ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232].

 

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلِّق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها، وكذا روى العوفي عنه، وكذا قال مسروق، وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك: إنها أُنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تُزوِّج نفسها، وأنه لا بد في تزويجها من وليٍّ.

 

وقد رُوِيَ أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته؛ فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبيدالله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تُخطب إليَّ، قال البخاري: وقال إبراهيم، عن يونس، عن الحسن: حدثني معقل بن يسار، وحدثنا أبو معمر، حدثنا عبدالوارث، حدثنا يونس، عن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل، فنزلت: ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ [البقرة: 232]؛ [ابن كثير].

 

أحكام الرضاع:

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233].

 

يقول ابن كثير: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرُم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما، لم يحرم.

 

والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مرويٌّ عن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأم سلمة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والجمهور، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري.

 

﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 233]: وعلى والد الطفل نفقةُ الوالدات وكسوتهن بالمعروف؛ أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يَسارِهِ وتوسُّطه وإقتاره؛ قال الضحاك: إذا طلق الرجل زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.

 

﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: لا تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، لكن ليس لها دفعه إذا ولدته، حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثم بعد هذا، لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه، فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها؛ قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، والزهري، والسدي، والثوري، وابن زيد، وغيرهم، هذا قول ابن كثير.

 

ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في المشهور عنه: “تُضارَّ” بفتح الراء المشددة على النهي، وأصله: “لا تُضارِر”، أو “لا تضارَر” على البناء للفاعل أو للمفعول؛ أي: لا تضارِر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو بأن تفرِّط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه، أو لا تضارَر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين، وقرأ عمر بن الخطاب: “لا تضارَر” على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: “لا تضارْ” بإسكان الراء وتخفيفها، ورُوِيَ عنه الإسكان والتشديد، وقرأ الحسن وابن عباس: “لا تضارِر” بكسر الراء الأولى، ويجوز أن تكون الباء في قوله: ﴿ بِوَلَدِهِ ﴾ صلةً لقوله: ﴿ تُضَارَّ ﴾ على أنه بمعنى تضر؛ أي: لا تضر والدةٌ بولدها، فتُسيء تربيته، أو تقصِّر في غذائه، وأُضيف الولد تارةً إلى الأب، وتارةً إلى الأم؛ لأن كل واحد منهما يستحق أن يُنسَب إليه، مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها؛ أي: لا يكلِّف كل واحد منهما الآخرَ ما لا يُطيقه، فلا تضاره بسبب ولده؛ [انتهى، الشوكاني].

 

﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 233]: قيل: في عدم الضِّرار لقريبه؛ قاله مجاهد، والشعبي، والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها؛ وهو قول الجمهور.

 

﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيُؤخذ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبدَّ بذلك من غير مشاورة الآخر.

 

﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلَّمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف.

 

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾؛ أي: في جميع أحوالكم، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم؛ [انتهى، ابن كثير].

 

عدة الوفاة:

﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 234].

 

يقول الشوكاني: لما ذكر سبحانه عِدَّةَ الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، عقَّب ذلك بذكر عدة الوفاة؛ لئلا يُتوَهَّم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق.

 

وظاهر هذه الآية العمومُ، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العِدَّة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، وإلى هذا ذهب الجمهور.

 

وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ((أنه أذِن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع)).

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشرًا))، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد: تَرْكُ الزينة من الطِّيب، ولُبس الثياب الجيدة والحلي، وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة؛ [تفسير فتح القدير، للشوكاني].

 

ويقول ابن كثير: أمرٌ من الله للنساء اللاتي يُتوفَّى عنهن أزواجهن: أن يَعْتَدِدْنَ أربعة أشهر وعشرَ ليالٍ، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة.

 

ولا يخرج من ذلك إلا المتوفَّى عنها زوجُها، وهي حامل، فإن عِدَّتَها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله في سورة الطلاق (4): ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].

 

وفي الصحيحين أيضًا عن أم سلمة: ((أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّيَ عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنُكحلها؟ فقال: لا، كل ذلك يقول: لا، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة)).

قالت زينب بنت أم سلمة: “كانت المرأة إذا تُوفِّيَ عنها زوجها دخلت حَفْشًا، ولبِست شرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طِيبًا ولا شيئًا، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتُعطى بَعْرَة فترمي بها، ثم تُؤتَى بدابَّة؛ حمارٍ أو شاة أو طير، فتفتض به فقلَّما تفتض بشيء إلا مات.

 

ومن ها هنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240].

 

والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطِّيب، ولُبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولًا واحدًا.

 

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 234]؛ قال العوفي عن ابن عباس: إذا طُلِّقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انْقَضَتْ عِدَّتُها، فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف؛ [انتهى، ابن كثير].

 

حكم خطبة المعتدة:

﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235].

 

﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ [البقرة: 235]؛ أي: لا جناح عليكم أن تُعرِّضوا بخِطبة النساء في عِدَّتِهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح؛ قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ [البقرة: 235]؛ قال: التعريض أن تقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها، يعرِّض لها بالقول بالمعروف، وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا، ولا ينصب للخطبة، وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها، ورواه البخاري تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ [البقرة: 235]، هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه تيسَّر لي امرأة صالحة.

 

وهكذا حكم المطلقة الْمَبْتُوتة يجوز التعريض لها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: ((فإذا حللْتِ فآذِنِيني))، فلما حلَّت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزوَّجها إياه.

 

فأما المطلقة الرجعية، فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخِطبتها، ولا التعريض لها، والله أعلم.

 

وقوله: ﴿ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ [البقرة: 235]؛ أي: أضمرتم في أنفسكم خطبتهن؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [القصص: 69].

 

﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [البقرة: 235]؛ قال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدتها ألَّا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحلَّ الخطبة والقول بالمعروف، وقال ابن زيد: ﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ﴾ [البقرة: 235] هو أن يتزوجها في العِدَّة سرًّا، فإذا حلَّت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [البقرة: 235]؛ قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد: يعني به: ما تقدَّم من إباحة التعريض.

 

﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ [البقرة: 235]؛ يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العِدَّة.

 

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]: في هذا توعُّدٌ على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤيِسْهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]؛ [تفسير ابن كثير].

 

تتمة أحكام الطلاق:

الطلاق قبل المساس وقبل الفريضة:

﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236].

 

أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها؛ قال ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، والحسن البصري: المسُّ: النكاح، بل ويجوز أن يُطلِّقها قبل الدخول بها، والفرض لها إن كانت مفروضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها؛ وهو تعويضها عما فاتها بشيء تُعطَاه من زوجها بحسب حاله، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ [البقرة: 236]، وقال سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة؛ [ابن كثير].

 

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن كان موسرًا متَّعها بخادم، أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا أمتعها بثلاثة أثواب.

 

وقال السعدي في تفسير الآية: “أي: ليس عليكم – يا معشر الأزواج – جُناح وإثم، بتطليق النساء قبل المسيس، وفرض المهر، وإن كان في ذلك كسرٌ لها، فإنه ينجبر بالمتعة، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئًا من المال؛ جبرًا لخواطرهن، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ ﴾؛ أي: المعسر ﴿ قَدَرُهُ ﴾ [البقرة: 236]، وهذا يرجع إلى العرف، وأنه يختلف باختلاف الأحوال؛ ولهذا قال: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 236]، فهذا حقٌّ واجب على المحسنين، ليس لهم أن يبخسوهن، فكما تسبَّبوا لتشوفهن واشتياقهن، وتعلُّق قلوبهن، ثم لم يعطوهن ما رغِبنَ فيه، فعليهم في مقابلة ذلك المتعة، فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي، وأدلَّه على حكمة شارعه ورحمته، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر؛ [تفسير السعدي].

 

الطلاق قبل المساس وبعد الفريضة:

﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237].

 

إذا طلقتم النساء قبل المسيس، وبعد فرض المهر، فللمطلقات من المهر المفروض نصفُه، ولكم نصفه، هذا هو الواجب ما لم يدخله عفوٌ ومسامحة، بأن تعفوَ عن نصفها لزوجها، إذا كان يصح عفوها، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح؛ وهو الزوج على الصحيح لأنه الذي بيده حلَّ عقدته، ولأن الوليَّ لا يصح أن يعفو عما وجب للمرأة، لكونه غيرَ مالك ولا وكيل، ثم رغَّب في العفو، وأن من عفا، كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر؛ [تفسير السعدي].

 

صلاة الخوف:

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 238، 239].

 

يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها؛ كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني))، وقد روى الترمذي، من حديث محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الوسطى صلاة العصر))، ثم قال: حسن صحيح.

 

وقوله: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: أقيموا صلاتكم كما أُمِرْتُم، فأتموا ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، وخشوعها وهجودها، ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: مثلما أنعم عليكم وهداكم للإيمان، وعلَّمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر؛ كقوله بعد ذكر صلاة الخوف: ﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛ [ابن كثير].

 

يقول السعدي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]: لم يذكر ما يُخاف منه؛ ليشمل الخوف من كافر وظالم وسَبُع، وغير ذلك من أنواع المخاوف؛ أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة، فصلوها رِجالًا؛ أي: ماشين على أقدامكم، أو ركبانًا على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها؛ حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها، ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل، بل أوجب من صلاتها مطمئنًّا خارج الوقت، ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: زال الخوف عنكم، ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]، وهذا يشمل جميع أنواع الذكر، ومنه الصلاة على كمالها وتمامها، ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]؛ فإنها نعمة عظيمة، ومنة جسيمة، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر؛ ليُبقِيَ نعمته عليكم ويزيدكم عليها؛ [تفسير السعدي].

 

﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 240].

 

 

هذه الآية منسوخة بالتي قبلها؛ وهي قوله: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]؛ قال البخاري: حدثنا أمية، حدثنا يزيد بن زريع، عن حبيب، عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾ [البقرة: 240] قد نسختها الآية الأخرى، فلِم تكتبها أو تَدَعها؟ قال: يا بن أخي، لا أُغيِّر شيئًا منه من مكانه.

 

ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نُسِخ بالأربعة الأشهر، فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يُوهِم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها، فأثبتُّها حيث وجدتها، ورُوِيَ من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات، وترك امرأته، اعتدَّت سنة في بيته، يُنفَق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234].

 

﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241].

 

قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]، قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت، وإن شئت لم أفعل؛ فأنزل الله هذه الآية: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241]؛ [ابن كثير].

 

وقال السعدي: أي: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقًّا على كل مُتَّقٍ؛ جبرًا لخاطرها، وأداء لبعض حقوقها، وهذه المتعة واجبة على من طُلِّقت قبل المسيس، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم، هذا أحسن ما قيل فيها، وقيل: إن المتعة واجبة على كل مطلقة؛ احتجاجًا بعموم هذه الآية، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيد، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة؛ [السعدي].

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

يتبع…

الحلقة القادمة: مقومات الجهاد وقصة طالوت وجالوت إن شاء الله.

 



تمت قراءة هذا المقال بالفعل239 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | تفسير: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة…)

Next Post

رييل ستوري | المبين جل جلاله وتقدست أسماؤه

Related Posts