dark

رييل ستوري | متلازمة الرضا والسعادة

متلازمة الرضا والسعادة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن الرضا والسعادة صفتان متلازمتان؛ وذلك لكونهما السبب والمسبب للفرح والسرور، ورغم أن كثيرًا من الناس يسعى للسعادة في هذه الحياة ويقطع في سبيلها المسافات والأميال، ويسهر الليالي، ويجمع الأموال والأمتعة؛ لكنهم لا يصلون إليها إلا ما ندر، وحتى من وصل إليها منهم وجدها سعادةً مؤقتةً سرعان ما تزول وتنتهي؛ وذلك لأن الإنسان بطبعه يملُّ ويريد الاستزادة والتغيير، كما أن تلك السعادة المؤقتة كثيرًا ما تحفُّها المنغِّصات والمشاكل والعقبات، فمن وجد سعادته في المال فرح به وخبَّأه وأهلك نفسه في العمل لجمع المزيد منه، ولا يملأ عينه مال الدنيا وما فيها، وربما خسره بعد ذلك في صفقة أو علاج أو غيره، ومن وجد سعادته في المتاع بدأ بشراء كل شيء سواء احتاج إليه أم لم يحتج إليه، حتى ضيَّع كل ماله فيما لا ينفع، وجلس يندب حَظَّه، ثم ملَّ بعد ذلك من كل ما لديه، ومن وجد سعادته في الجاه والشهرة أخذ يبذل كل ما عنده ليشتهر صيته بين الناس، حتى أصبحت حياته مليئة بالمراقبة والضغوط، ولا تهنأ نفسُه بغمضة عين في هدوء بعيدًا عن الأضواء، ولا براحة بال، ومن وجد سعادته في الأكل أخذ في الاستزادة منه حتى انتهى به الأمر إلى السمنة المفرطة التي أفسدت عليه حياته وصحَّته، ومن وجدت سعادتها في الجمال أخذت تضع الأصباغ والألوان، وأكثرت من عمليات التجميل؛ حتى أصبح وجهها كوجه المُهرِّج، وأسوأ مما كان عليه؛ وهكذا لا يمل الإنسان ولا يملأ عينه شيء حتى الموت.

 

والتكالب على الدنيا مذموم في الإسلام، وقد حذَّرنا الله تعالى من الركون إليها والاطمئنان بها، فلا ينبغي أن نجعلها هي أقصى أحلامنا ومبتغانا الأول وننسى أمر الآخرة ونغفل عنه ونهمله لأجلها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8]، وبعد كل هذا التعب في السعي لأجل الدنيا تجد طلابها أتعس الناس، وحياتهم مملوءة بالقلق والإجهاد والتوتر، ولا يسكِّن هذا القلق إلا الرضا والقناعة.

 

ولو رضِي الإنسان بما قسمه الله له لذهب عنه الطمع والقلق، وترك الجري واللهث وراء أحلام الحياة التي لا تنتهي التي أشقته في حياته ولم يحصِّل منها إلا ما هو مكتوب له في تقدير الله، ولن يزيده تهالكه عليها شيئًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، أو أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله عليك لم يضروك))[1]؛ فإذن ليس للإنسان إلا الرضا به، شاء أم أبى، وإن لم يرضَ سيصيبه الهمُّ والضجر والأسى على ما فاته من عرض الدنيا، ولن ينال من همِّه ذلك سوى الأمراض والتعاسة والحزن، كما ستصيبه الغيرة وحسد الآخرين على ما أعطاهم الله مما لم ينله هو؛ فيزيده ذلك شرًّا وسواد نفسٍ، وستأكل نار الحسد قلبه وحسناته كما تأكل النار الحطب، ولن يسعد بشيء، ولن يهنأ حتى بما عنده؛ بل ستصير حياته كآبةً وغمًّا وحزنًا وعذابًا نفسيًّا، وسيحرم نعمة السعادة وراحة البال وطيب الخاطر، وربما جَرَّه ذلك للغضب من أقدار الله، والتكلم بالكفر والجحود، فيسخط الله عليه ويمسه عذاب الآخرة بعد ما عاناه من عذاب الدنيا وتعبها؛ ولذا فإن الرضا هو الخلاص والمخرج للإنسان في هذه الدنيا؛ حيث يستطيع به تحمُّل المتاعب التي يمرُّ بها، والامتحانات التي لا تنتهي فيها من حزن ومرض وفقر وحرمان وغيرها، ووجود هذه الابتلاءات سنة الله في الأرض؛ ليمتحن بها عباده، فمن صبر ورضي وقبل بما قدر الله فاز ونجا، ومن سخط وتذمر وتكلم بما لا يرضيه خسر وندم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، وقال: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

 

والرضا فوق ذلك هو عبادة قلبية من أعمال القلوب التي حثَّنا عليها الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرض))[2].

 

والرضا بالقضاء سبب لراحة البال والاطمئنان وطيب العيش، كما أنه طريق للنجاة في الآخرة ونيل السعادة الأبدية في الجنة، وتلك هي السعادة الحقيقية التي لا تنتهي ولا ينغصها نصب ولا مرض، وهي التي نسعى لها بالليل والنهار حتى وإن قلت أيادينا في طلبها؛ ولكنها تظل حلم كل مسلم حتى ولو كان عاصيًا أو مُقصِّرًا، ففي الجنة نعيم لا يشوبه حزن ولا ألم ولا شيء من مُنغِّصات الحياة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 45 – 48]، فلا غل هناك ولا حقد ولا حسد ولا تنافس على مصالح الدنيا ومتاعها، فالكل فيها مشغول بالنعيم والسرور الذي حباهم الله به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 55 – 58]، أولئك هم الفائزون حقًّا.

 

ولا تنال الجنة بالتكالب على الدنيا والموت لأجلها؛ ولكن بالتوحيد والطاعة والتقوى والعمل الصالح ونهي النفس عن الهوى، فأصحابها هم أهل الغنى والرضا بالقليل وشكر الله والإسلام له والاستسلام لقضائه والصبر على ابتلائه؛ حيث لم يجزعوا مما أصابهم من فقر وألم ولا مرض ولا نقص ولا موت ولا حرمان؛ لأنهم ينتظرون العطاء الجزيل منه، قال صلى الله عليه وسلم: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء))[3].

 

فالرضا إذن هو الوجه الآخر للسعادة في الدنيا وملازم لها، وهو يقوم على القناعة والصبر، ومن رضي في الدنيا بما قسم الله ارتاحت نفسه، وطابت بما عنده، ووجد فيه البركة والكفاية واليسر، وأصبح يرى نفسه أغنى الناس حتى ولو كان فقيرًا، ونال به عفو الله وسعادة الآخرة ونعيمها، فطوبى له وحسن مآب! قال تعالى: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]، فأثمر صبره ورضاه عن الله أن يرضى الله عنه ويكافئه بالمزيد؛ فيحيا حياة طيبة وينقلب إلى أهله مسرورًا، قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8].

 

وأما الكافر الشقي فلا يهتم بهذه السعادة الأبدية أو يصدق بوجودها؛ ولذا لا يسعى إليها، فتجده لا هدف له في الحياة سوى ملذاتها العابرة وفتنها التي تغريه وتهلكه في السعي لحصولها، وكأنه يجري وراء سراب لا يستطيع أن يجده أو يصل إليه مهما تابع أثره وركض خلفه؛ وذلك لأنه سراب وليس حقيقة؛ قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، فنال نصيبه من السعادة في هذه الدنيا مع ما فيها من منغِّصات، وليس له بعد الموت إلا الشقاء والتعاسة.

 

نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من أهل الرضا والسعادة، ومن الصابرين المحتسبين والقانعين بعطائه والناظرين لفضله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] حسنه محمد بن محمد الغزي في إتقان ما يحسن (200/1)، وأخرجه الترمذي (2516) مختصرًا بنحوه، وأحمد (2803) باختلاف يسير.

[3] أخرجه البخاري (5198)، ومسلم (2738).



Loading

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

وقعت في العادة السرّية وتبت هل تُقبل توبتي؟ عثمان الخميس

Next Post

Heart touching story of Ayyub (a.s.) #islam #islamicvideo #trending #viral

Related Posts